كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 12)

الأول: قطعه بأنَّ تلك الأشياء لا تبيدُ أبداً.
والثاني: إنكار البعث.
فإن قيل: هب أنَّه شكَّ في القيامة، فكيف قال: ما أظنُّ أن تبيد هذه أبداً، مع أنَّ الحسَّ يدلُّ على أنَّ أحوال الدنيا بأسرها ذاهبةٌ غير باقية؟ .
فالجواب: مراده أنَّها لا تبيد مدَّة حياته، ثم قال: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} أي مرجعاً وعاقبة، وانتصابه على التَّمييز، ونظيره قوله تعالى: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] .
وقوله: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77] .
فإن قيل: كيف قال: ولَئِنْ رددت إلى ربي وهو ينكرُ البعث؟ .
فالجواب: معناه: ولئنْ رددتُّ إلى ربِّي على زعمكَ، يعطيني هنالك خيراً منها.
والسَّبب في وقوعه في هذه الشُّبهة أنَّه تعالى لمَّا أعطاه المال والجاه في الدنيا، ظنَّ أنه إنَّما أعطاه ذلك؛ لكونه مستحقًّا له، والاستحقاقُ باقٍ بعد الموت؛ فوجب حصول الإعطاء، والمقدِّمة الأولى كاذبةٌ؛ فإن فتح باب الدنيا على الإنسان، يكون في أكثر الأمر للاستدراج.
وقرأ أبو عمرو والكوفيون «مِنْهَا» بالإفراد؛ نظراً إلى أقرب مذكورٍ، وهو قوله: «جنَّتهُ» وهي في مصاحف العراق، دون ميم، والباقون «مِنْهُما» بالتثنية؛ نظراً إلى الأصل في قوله: «جَنَّتيْنِ» و «كِلتَا الجنَّتيْنِ» ورُسِمَتْ في مصاحفِ الحرمينِ والشَّام بالميم، فكل قد وافق رسم مصحفه.
قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} أي المسلم.
قوله: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} أي: خلق أصلك من تراب، وهذا يدلُّ على أنَّ الشاكَّ في البعث كافرٌ.
ووجه الاستدلال أنَّه، لمَّا قدر على [الابتداء] ، وجب أن يقدر على الإعادة.
وأيضاً: فإنَّه تعالى، لمَّا خلقك هكذا، فلم يخلقك عبثاً، وإنَّما خلقك لهذا المعنى، وجب أن يحصل للمطيع ثوابٌ، وللمذنب عقابٌ؛ ويدلُّ على هذا قوله: {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي: هيَّأك تهيئة تعقل وتصلح أنت للتكليف، فهل يحصل للعاقل مع هذه الآية إهمال أمرك؟! .

الصفحة 488