كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 12)

وقالوا: لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل [حصول الفعل] ، لكانت الاستطاعة على الصَّبْر حاصلة لموسى قبل حصول الصَّبر، فيلزم أن يكون قوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} كذباً، ولمَّا بطل ذلك، علمنا أنَّ الاستطاعة لا توجد قبل الفعل.
أجاب الجبائيُّ بأنَّ المراد من هذا القول: أنَّه يثقل عليه الصَّبر؛ لا أنه لا يستطيعه، يقال في العرف: «إنَّ فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً، ولا أن يجالسه» إذا كان يثقل عليه ذلك.
ونظيره قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} [هود: 20] أي كان يشقُّ عليهم الاستماع.
وأجيب بأنَّ هذا عدولٌ عن الظاهر من غير دليل، وأنه لا يجوز، ومما يؤكد استدلال الأصحاب قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} استبعد حصول الصبر على ما لا يقف الإنسان على حقيقته، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على الفعل حاصلة قبل حصول ذلك العلم، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً؛ لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله تعالى باستبعاده، علمنا أن الاستطاعة، تحصل قبل الفعل.
قوله: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} . قال ابن الخطيب: احتج الطاعنون في عصمةِ الأنبياء بهذه الآية؛ فقالوا إن الخضر قال لموسى: إنَّك لنْ تستطيعَ معي صبراً، وقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابراً، وكلُّ واحدٍ من هذين القولين مكذبٌ للآخر، فيلزمُ إلحاقُ الكذب بأحدهما، وعلى التَّقديرين، فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء - عليهم السلام -.
وأجيب بأنَّه يحمل قوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} على الأكثر والأغلب، وعلى هذا، فلا يلزم ما ذكروه، وقد يجاب بجواب آخر، وهو أن موسى - عليه السلام - استثنى في جوابه، فقال: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً} وعلى هذا، فلا يلزمُ ما ذكروه.
قوله: {وَلاَ أَعْصِي} فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها، وفيه بعدٌ.
الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ؛ عطفاً على ستجدني؛ لأنها منصوبة المحلِّ بالقول.
وقال أبو حيَّان: ويجوز أن يكون معطوفاً على «ستجدني» فلا يكون لهُ محلٌّ من الإعراب، وهذا سهوٌ؛ فإنَّ «سَتجِدُنِي» منصوب المحلِّ؛ لأنه منصوب بالقول، فكذلك ما عطف عليه، ولكنَّ الشيخ رأى كلام الزمخشريِّ كذلك، ولم يتأمَّله، فتبعه في ذلك، فمن ثمَّ جاء السَّهوُ قال الزمخشري: «ولا إعْصِي» في محلِّ النصب عطفاً على «صَابِراً»

الصفحة 533