كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 12)

بالوقوف على حقائق الأشياء وببناء الأحكام على حقائقها، وأنّ موسى - عليه السلام - كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور، فبهذا ظهر التفاوتُ بينهما في علمه.
فإن قيل: فحاصل الكلام أنَّه تعالى أطلعه على حقائق الأشياء، وهذا النَّوعُ من العلم ما يمكنُ تعلُّمه، وموسى - عليه السلام - إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم، فكان الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكنُ تعلُّمه، وهذه المسائل علمها لا يمكن تقاسمه، فما الفائدة في إظهارها؟
فالجواب: أنَّ العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة، وأمَّا العلم بحقائق الأشياء، فإنَّه لا يمكن تحصيله إلاّ بناءً على تصفية الباطن، وتطهير القلب ع نالعلائق الجسمانية، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم: {وعلَّمناهُ من لدُنَّا علماً} ثم إن موسى - عليه السلام - لمَّا كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله تعالى إلى ذلك العالم، ليعلِّم موسى أنَّ كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظَّواهر إلى علوم البواطنِ المبنية على الإشراف على حقيقة الأمور.
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أن الفقير أشدُّ حاجة من المسكين؛ لأنَّه تعالى سمَّاهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون السفينة.
واعلم أن العالم بيَّن مراده من تخريق السفينة، وأنه لم يكن مقصوده تغريق أهلها؛ بل كان مقصوده تعييبها، لئلاَّ يأخذها ذلك الملك الظَّالم؛ لأنه كان من عادته أخذ السفن الخالية من العيوب، وضرر هذا التخريق أسهل من ضرر الغصب.
فإن قيل: هل يجوز للأجنبيِّ أن يتصرَّف في ملك الغير لمثل هذا الغرض؟ .
فالجواب: هذا مما تختلف أحواله بسبب اختلاف الشرائع، فلعلَّ هذا كان جائزاً في تلك الشريعة، وأما في شريعتنا فهذا الحكم غير بعيدٍ، فإنَّا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق يأخذون جميع مال الإنسان، فإن دفعنا إلى قاطع الطَّريق بعض ذلك المال سلم الباقي، فحينئذ يحسنُ منَّا أن ندفع بعض مال ذلك افنسان إلى قاطع الطريق؛ ليسلم الباقي، وكان هذا إحساناً منا لذلك المالك.
كذلك قيل في السفينة المشحونة إذا خيف عليها الغرق، وأنه إذا ألقي منها شيءٌ في البحر خفَّت وسلم ما فيها جاز الإلقاء، بل يجب كذلك، وكذلك مسالة التترُّس بالمسلمين.
واعلم بأنَّ هذا التخريق يجب أن يكون على وجه لا يبطل منافع تلك السفينة بالكلِّية، إذ لو ك ان كذلك، لم يكن الضَّررُ الحاصل من غصبها أعظم من الضَّرر الحاصل من تخريقها، وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً.

الصفحة 551