كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 12)

قوله «مِنْهُ ذِكْراً» أي: من أخباره وقصصه.
قوله: «إنَّا مكَّنا له» .
ومعنى «مكنَّا لهُ» : أوطأنا، والتمكينُ: تمهيد الأسباب قال عليٌّ: سخَّر له السَّحاب، فحمله عليه، ومدَّ له في الأسباب، وبسط له في النُّورِ، وكان اللَّيلُ والنهار عليه سواء، فهذا معنى تمكنيه في الأرض؛ وأنه سهَّل عليه السير فيها، وذلل له طريقها.
وهذا التَّمكينُ بسبب النبوة، ويحتمل أن يكون المراد التمكين بسبب الملكِ من حيث إنه ملك مشارق العالم ومغاربه، والأول أولى؛ لأنَّ التمكينَ بسبب النبوّة أعلى من التمكين بسبب الملك، وحمل كلام الله تعالى على الوجه الأكمل الأفضل أولى، ثم قال: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} قالوا: السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود، وهو يتناول العلم والقدرة والآلة، فلذلك قيل: «وآتيناه من كل شيء» ما يستعين به الملوك على فتح المدن، ومحاربة الأعداء «سبباً» أي: علماً يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض، وقيل: قرَّبنا له أقطار الأرض.
واستدلوا بعموم قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} على أنه كان نبيًّا كما تقدَّم، ومن أنكر نبوته قال: المعنى: وآتيناه من كلِّ شيءٍ يحتاجُ إلى إصلاح ملكه إلاَّ أن تخصيص العموم خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلاَّ بدليلٍ.
قوله: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} .
قرأ نافع، وابن كثيرٍ، وأبو عمرو «فَاتَّبعَ» و «ثمَّ اتَّبعَ» في الموضعين بهمزة وصل، وتشديد التاء. والباقون بهمزة القطع في المواضع الثلاثة وسكون التاء.
فقيل: هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ.
وقيل: «أتْبَعَ» بالقطع متعدٍّ لاثنين حذف أحدهما تقديره: فأتْبع سبباً سبباً آخر، أو فأتبع أمره سبباً آخر، ومنه {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} [القصص: 42] فعدَّاه لاثنين ومن حذف أحد المفعولين: قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] ، أي: أتبعوهم جنودهم. واختار أبو عبيد «اتَّبعَ» بالوصل، قال: «لأنَّه من المسيرِ» قال: تقول: تبعتُ القوم واتَّبعتُهم. فأمَّا الإتباعُ بالقطع فمعناه اللحاقُ، كقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] .
وقال يونس، وأبو زيدٍ: «أتْبعَ» بالقطع عبارة عن المجدِّ المسرعِ الحثيثِ الطلب. وبالوصلِ إنَّما يتضمَّن الاقتفاء دون هذه الصفات.
قال البغويُّ: والصحيح الفرق بينهما، فمن قطع الألف، فمعناه: أدرك ولحق، ومن قرأ بالتشديد فمعناه: سار، يقال: ما زلتُ أتَّبعه حتى اتبعته، أي: ما زلتُ أسير خلفهُ حتى لحقته، ومعنى الآية: أنه تعالى لمَّا أعطاهُ من كل شيءٍ سببه، فإذا أراد سبباً أتبع سبباً يوصله إليه {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة} .

الصفحة 556