كتاب المحلى بالآثار (اسم الجزء: 12)

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الذَّنْبِ يُصِيبُهُ الْمُسْلِمُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِإِبَاحَةِ السَّتْرِ عَلَى مُسْلِمٍ فِي ظُلْمٍ ظَلَمَ بِهِ مُسْلِمًا، كَمَنْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ بِحِرَابَةٍ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ، أَوْ غَصَبَهُ امْرَأَتَهُ، أَوْ سَرَقَ حُرًّا، وَمَا أَشْبَهَهُ، فَهَذَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقُومَ بِهِ حَتَّى يَرُدَّ الظُّلَامَاتِ إلَى أَهْلِهَا؟ فَنَظَرْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَوَجَدْنَاهُ نَدْبًا لَا حَتْمًا، وَفَضِيلَةً لَا فَرْضًا، فَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى الْمُسْلِمِ يَرَاهُ عَلَى حَدٍّ بِهَذَا الْخَبَرِ، مَا لَمْ يُسْأَلْ عَنْ تِلْكَ الشَّهَادَةِ نَفْسِهَا، فَإِنْ سُئِلَ عَنْهَا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ إقَامَتُهَا وَأَنْ لَا يَكْتُمَهَا، فَإِنْ كَتَمَهَا حِينَئِذٍ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَصَحَّ بِهَذَا اتِّفَاقُ الْخَبَرِ مَعَ الْآيَاتِ، وَأَنَّ إقَامَةَ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَحْرِيمَ كِتْمَانِهَا، وَكَوْنَ الْمَرْءِ ظَالِمًا بِذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ إذَا دُعِيَ فَقَطْ، لَا إذَا لَمْ يُدْعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] .
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ نا يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ نا ابْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ - هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا، أَوْ يُخْبِرُ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَكَانَ هَذَا عُمُومًا فِي كُلِّ شَهَادَةٍ فِي حَدٍّ أَوْ غَيْرِ حَدٍّ، وَوَجَدْنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] فَسَوَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ وُجُوبِ أَدَاءِ الْمَرْءِ الشَّهَادَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى وَالِدَيْهِ، وَأَقَارِبِهِ، وَالْأَبَاعِدِ، فَوَجَبَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْءِ فِي تَرْكِ أَدَائِهَا مَا لَمْ يُسْأَلْهَا - حَدًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - فَإِذَا سُئِلَهَا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا - حَدًّا أَوْ غَيْرَهُ وَأَنَّ مَنْ كَانَ لِإِنْسَانٍ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ لَا يَدْرِي بِهَا -: فَفَرْضٌ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ بِهَا، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الدِّينُ النَّصِيحَةُ قِيلَ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» فَإِنْ سَأَلَهُ الْمَشْهُودُ أَدَاءَهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ فَرْضًا، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]

الصفحة 45