كتاب صحيح وضعيف تاريخ الطبري (اسم الجزء: 12)

متّقون، ومعه مَنْ قد بلغكم من أعراب البوادي وصعاليك الجبال ولفيف القرى، ولست آمن إن هجم علينا مدينة الرّيّ أن يدعوَ أهلَها خوفُهم إلى الوثوبِ بنا، ويعينوه على قتالنا، مع أنه لم يكن قوم قط روعبوا في ديارهم، وتورّد عليهم عسكرهم إلا وَهنوا وذلوا، وذهب عزمهم، واجترأ عليهم عدوّهم. وما الرأي إلّا أن نصيّر مدينة الرّيّ قَفا ظهورنا، فإن أعطانا الله الظَّفَر، وإلا عوّلنا عليها فقاتلنا في سككها، وتحصنّا في مَنعتها إلى أن يأتينا مدد أو قوة من خراسان. قالوا: الرأي ما رأيتَ. فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا. فعسكروا على خمسة فراسخ من الرّيّ بقرية يقال لها كلواص، وأتاه محمد بن العلاء فقال: أيها الأمير، إن جندك قد هابوا هذا الجيش، وامتلأتْ قلوبهم خوفًا ورُعبًا منه، فلو أقمتَ بمكانك، ودافعت القتال إلى أن يشامّهم أصحابك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجهَ المأخذ في قتالهم! فقال: لا، إني لا أوتَى من قلّة تجربة وحَزْم، إنَّ أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادُهم كثير عددهم، فإن دافعت القتالَ، وأخَّرْتُ المناجزة لم آمن أن يطلعوا على قلّتنا وعورتنا، وأن يستميلوا مَنْ معي برغبة أو رَهبْة، فينفر عني أكثر أصحابي، ويخذلني أهلُ الحفاظ والصبر، ولكن ألفّ الرجال بالرجال، والحِم الخيل بالخيل، وأعتمد على الطاعة والوفاء، وأصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بفضل الشهادة، فإن يرزق الله الظّفَر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى، فلست بأول مَنْ قاتل فقتِل، وما عند الله أجزل وأفضل.
وقال عليّ لأصحابه: بادروا القوم، فإنْ عددهم قليل، ولو زحفتم إليهم لم يكن لهم صبر علي حرارة السيوف وطعن الرماح. وعبَأ جنده ميمنة وميسرة وقلبًا، وصيَّر عشر رايات، في كل راية ألف رجل، وقدم الرّاياتِ رايةً رايةً، فصيّر بين كلّ راية وراية غَلْوة، وأمرَ أمراءها: إذا قاتلت الأولى فصبرت وحمت وطال بها القتال أن تُقدِّم التي تليها وتؤخِّر التي قاتلت حتى ترجع إليها أنفسُها، وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة، وصيَّر أصحابَ الدروع والجواشن والخوذ أمام الرايات، ووقف في القلب في أصحابه من أهل البأس والحفاظ والنجدة منهم.
وكتَّبَ طاهر بن الحسين كتائبَه وكردَس كراديسه، وسوّى صفوفه، وجعل

الصفحة 57