كتاب الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة (اسم الجزء: 12)

ومن كان كذلك فلا همَّ له إلا في التزود بما ينفعه عند عوده إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم.
قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن، لما خلق آدم أُسكن هو وزوجته الجنة، ثم أُهبطا منها، ووعد الرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبدًا يحن إلى وطنه الأول، وكما قيل:
كَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفَتى ... وحَنينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنزِلِ
قال ابن القيم - رحمه الله -:
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنهَا ... مَنَازِلُكَ الأولَى وَفِيهَا المُخَيّمُ
وَلكِنَّنَا سَبْىُ العَدُوِّ، فَهَلْ تَرَى ... نَعُودُ إلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ؟
وقد زعموا أن الغريبَ إذا نأى ... وشطَّتْ به أوطانُه لَيْسَ يَنْعَمُ
وأيُّ اغترابٍ فوق غربَتِنا التي ... لها أضحتِ الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ
الحال الثاني: أن يُنزِلَ المؤمنُ نفسه في الدنيا كأنه مسافرٌ غير مقيم البتةَ، وإنما هو سائر في قطع منازل الطريق حتى ينتهي به السفرُ إلى آخره وهو الموت، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهمَّته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: ١٩٧].

الصفحة 9