كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 28)

"""""" صفحة رقم 270 """"""
إلى البيت المقدس ، فكان وصوله إليه في يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، وكان به البطرك المعظم عندهم ، وهو أعظم شأنا من ملكهم ، وبه أيضاً ياليان بن بارزان صاحب الرملة ومن خلص من فرسان الفرنج من حطين ، واجتمع به أهل عسقلان وغيرها ، كلهم يرى الموت عليه أهون من أن يملك البيت المقدس .
فنزل السلطان بالجانب الغربي وأقام خمسة أيام يطوف حول البلد لينظر من أين يقاتله ، ثم انتقل إلى الجانب الشمالي يوم الجمعة ، العشرين من الشهر وكانت من به من المقاتلين ستين ألفاً غير النساء والصبيان فنصب السلطان المجانيق في تلك الليلة ، ونصب الفرنج على السور المجانيق أيضاً ، وقاتلوا أشد قتال رآه الناس لأن كلا من الفريقين يرى ذلك عليه من الواجبات لا يحتاج فيه على سلطان ، وكانت خيالة الفرنج يخرجون كل يوم إلى ظاهر البلد فيقاتلون ويبارزون ، وتوالى الزحف ، ونقب المسلمون السور مما يلي وادي جهنم .
فلما رأى الفرنج ذلك أخلدوا إلى طلب الأمان ، وبعثوا جماعة من أكابرهم في ذلك ؛ فامتنع الملك الناصر من ذلك وقال ، لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة من القتل والسبي ، فلما رجع الرسل إليهم ، أرسل باليان بن بارزان يطلب الأمان لنفسه ليحضر إلى الملك الناصر ، فأمنه ، فحضر إليه وسأله الآمان فلم يجبه ، واستعطفه فلم يتعطف ، واسترحمه فلم يرحمه ، فلما أيس منه قال له ما معناه : أيها السلطان ، اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى ، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ، وهم يكرهون الموت ويرغبون بالحياة ؛ فإذا رأينا أن الموت لا بد منه والله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ، ونحرق أموالنا وأمتعتنا ، فلا نترككم تغنمون منها دينار واحداً ولا درهماً ، ولا تسبون ولا تأسرون رجلا أو امرأة 124 فإذا فرغنا من ذلك خربنا الصخرة والمسجد الأقصى ؛ وغير ذلك من المواضع الشريفة ؛ ثم نقتل من عندنا من أسرى المسلمين ، وهم خمسة آلاف ، ولا نترك لنا دابة ولا حيواناً إلا قتلناه ، ثم نخرج إليكم ، كلنا ، فنقاتلكم قتال من يريد يحمي دمه ونفسه ، فلا يقتل الرجل منا حتى يقتل ، فإما نموت أعزاء أو نظفر كراما .

الصفحة 270