كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 29)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
كان قد اتصل بالخدمة العادلية في أواخر الأيام الناصرية . فلما مات ابن النحال النصراني - كاتب الملك العادل - تقدم صفي الدين ، فرآه شهماً مقداماً فقدمه ، وتمكن من دولته . فلما كانت حادثة الأفضل ، ورجوعه عن دمشق بعد حصارها ، وخرج العادل في طلبه اجتاز بالبيت المقدس ، ومعه صفي الدين ، فتحلف معه أنه إن قدر الله تعالى له بملك الديار المصرية ، يمكنه من المصريين ، وحلفه على ذلك فحلف له .
فلما ملك العادل الديار المصرية ، لم يتمكن صفي الدين من مصادرات المصريين ، لأمرين : أحدهما ما حل بالناس من الغلاء المشهور ، والثاني ملازمة العادل ببلاد الشام . فلم يزل كذلك إلى سنة اثنتين وستمائة عند قدوم العادل من الشام ، فأمسك الصاحب جماعة من رؤساء المصريين ، وأصحاب الدواوين والمستخدمين وغيرهم ، وعاقبهم أشد عقوبة ونكل بهم ، وفعل بهم ما أوجب حقد الناس عليه . وكثر بطشه بالناس ، وأقام لنفسه حرمةً عظيمة زادت على حرمة السلطان وعظم أمره ، حتى كان أولاد الملك العادل يأتون إلى داره فيجلسون على بابه ، حتى يؤذن لهم ، فثقل ذلك على أمراء الدولة وخاطبوا السلطان في أمره ، وهو لا يسمع فيه كلام متكلم . فلما كان في سنة ست وستمائة - والسلطان على سنجار - اتفق أن الصاحب تحدث معه في شيء ، لم يوافق رأى السلطان ، فتوقف عن إجابته . فقام الصاحب من مجلس السلطان ، وقد غضب ، وجرح جرحاً مفرطاً في المجلس ، حتى خجل العادل ممن حضره ، ووجدوا للكلام مجالا فتكلموا فيه . وكان العادل من أثبت الناس ، وأحلمهم وأقلهم بطشاً ، وصفي الدين بخلاف ذلك . فبقيت هذه الحادثة في نفس السلطان كامنة . وكان القاضي الأعز بن شكر في هذه السفرة نائب الوزارة بالديار المصرية ، وهو ناظر الدواوين بها في خدمة الملك الكامل ، فحصل بينهما مودة . فحسده من كان ينوب عن الصاحب في الوزارة قبله . وكانوا يكاتبون الصاحب ويقولون له إن الأعز قد توثب عليك ، واتصل بالكامل وتمكن منه .
فلما كان في ذي الحجة ، سنة سبع وستمائة ، اجتمع بنو شكر عند الصاحب على طعامه . فأشار أن توضع زبدية طعام مخصوص بين يدي الموفق - وهو أحد من كان ينوب عن الوزارة - فقال أحد الحاضرين : يده طويلة - يريد أنها تطول لمكان الزبدية . فقال آخر : طولها الذي صرفه من نيابة الوزارة - يعرض به أنه كان يتبرطل فضحك الأعز ضحكاً مفرطاً ، بمعنى أنه أمين ، ليس فيه ما يقال كما قيل في غيره فغضب