كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

الصفحة الثانية من (ن 2)
الورقة الأولى من (ن 3)
ومحل بسط ذلك كُتب الفقه.
قال القرطبي: عندنا لا بُد أن يقول: عدل رضًى. ولا يكفي الاقتصار على أحدهما، ولا يلزمه زيادة عليهما.
هذا في الشهادة، أما الرواية فلهُم ألفاظ غير ذلك تَوَسُّعًا، وجعلوها مراتب:
أعلاها: أن يجمع بين لفظين متحدي المعني؛ تأكيدًا، كأن يقول: "ثبتٌ حُجةٌ" أو "ثبتٌ حافظٌ" أو "ثقةٌ متقنٌ" أو نحو ذلك، أو يكرر فيقول: "ثقةٌ ثقةٌ" أو "ثبتٌ ثبتٌ". قاله الذهبي في مقدمة "الميزان".
الثانية: وهي ما بدأ بها ابن أبي حاتم وابن الصلاح، أنْ يقول: ثقةٌ، أو: متقنٌ، أو: ثبتٌ، أو: حجةٌ، أو: حافظٌ، أو: ضابطٌ. قال الخطيب: (أرفع العبارات أن يقول: حجةٌ، أو: ثقةٌ).
الثالثة: أن يقول: "لا بأس به" أو "صدوق" أو "خيار".
الرابعة: أن يقول: "محلُّه الصدق" أو "رَووا عنه" أو "شيخ" أو "وسط" أو "صالح الحديث" أو "مُقارب" بفتح الراء وكسرها كما حكاه صاحب "الأحوذي".
على أن ابن أبي حاتم وابن الصلاح جعلَا "محله الصدق" من الرتبة التي قبل هذه، لكن صاحب "الميزان" جعلها من الرابعة.
ودُون ذلك أنْ يقول: صويلح، أو: صدوق إن شاء الله تعالى. ومحل البسط في ذلك كتب علوم الحديث.
ومنها: ما يعتبر في المزكِّي من كوْنه عدلًا عارفًا بأسباب التعديل والجرح، مطَّلعًا على أحوال من يزكيه بطُول صحبته معه واختباره في سِره وعلانيته سفرًا وحضرًا؛ فلذلك صعبت التزكية جدَّا.
نعم، اختُلف في ذلك في مسائل:
قومٌ إذا الشَر أَبْدَى ناجِذَيْه لهم ... طاروا إليه زرافات وَوحْدانا
عَلِم أن "زرافات" بمعنى جماعات.
ولا يخفَى ما في ذلك مِن نظر؛ فإن نفس اللفظ نُقل بطريق، وإنما القرينة في إرادة الشاعر به هنا ذلك.
الثالث: قد عُلم في سبق من تغايُر النقل الصِّرْف والاستقراء بطريق الاستقراء ما قاله الخطيب البغدادي في "شرح الخطب النباتية" من أن اللغوي شأنه أن ينقل ما يظفر به عن العرب ولا يتعداه، والنحوي شأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه، كالمحدِّث شأنه أن ينقل الحديث، والفقيه شأنه أن يتلقاه ويتصرف فيه ويقيس عليه الأشباه.
الرابع: قال الشافعي - رضي الله عنه - في "الرسالة": (لسان العرب أوسع الألسنة، لا يحيط بجميعه إلا نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامَّتها. والعِلم به عند العرب كالعلم بالسُّنة عند أهل الفقه، لا نَعلم رجُلًا جمع السُّنن فلم يذهب منها عليه شيء، وتوجد مجموعة عند جميعهم) (¬1).
ونقل ابن فارس في "فقه العربية" عن بعض الفقهاء أنه لا يحيط بها إلا نبي، قال: (وهو كلام خليق أن يكون صحيحًا. قال: وما بلغنا عن أحد من الماضين أنه ادَّعَى حِفظ اللغة. وما وقع في آخِر "كتاب الخليل" أن هذا آخِر كلام العرب فالخليل أتْقَى لله من أن يقول ذلك) (¬2).
قال: (وذهب علماؤنا -أو أكثرهم- إلى أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل، ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شِعر كثير وكلام كثير، وأحْرِ بهذا القول أن يكون
¬__________
(¬1) الرسالة (ص 42).
(¬2) الصاحبي في فقه اللغة (ص 24).
فأجاب بأن ذلك للتعارض بين الجميع وما يليه، لا لأنه يعود للكل.
قال إلْكِيا: (وهذا المأخذ غير مَرْضي؛ فإنَّ التوقف في المستثنى يوجب التوقف في المستثنى منه).
نعم، نقل ابن القشيري والمازري أن التوقف إنما هو إذا كانت الجمل متناسبة ولا قرينة. فإنْ كانت مختلفة الجهات [متباينة] (¬1) المأخذ، فالظاهر الاختصاص بالجملة الأخيرة، للانقطاع [بينها] (¬2) في المعنى والغرض وإنْ أمكن العود للكل.
واختار إلْكِيَا ذلك، وقال: إنه حسن جدًّا، وإن به يتهذب مذهب الشافعي ويُغني عما عداه.
تنبيه:
حكوا قول الوقف عن المرتضى، إلا أنه يقول به لكونه عنده مشتركًا بين عَوْده للكل والأخير فقط، بخلاف تَوقُّف القاضي، فإنه لعدم العلم بمدلوله لغةً.
بل بعضهم يغاير بين قولَي الاشتراك والوقف كما فعل في "جمع الجوامع".
والصواب أنه قول واحد وإنِ اختلف مدْرَك التوقف؛ ولهذا لم يعد ما ذكره بعد مِن تخصيص محل الوقف قولًا آخر، وذلك أن الأثبت في النقل عن المرتضى ما حكاه صاحب "المصادر" أنه يقطع بِعَوْده إلى الجملة الأخيرة فقط، ويتوقف في الرجوع إلى غيرها، وهو أَعلم بمذهبه؛ لأنه شيعي مثله.
الرابع ما سبق اختيار إلْكِيَا له، ونحوه ما حكى ابن برهان في "الأوسط" عن عبد
¬__________
(¬1) في (ت، س): متناسبة.
(¬2) في (ص، ض): بينهما.
الثالث:
جعل بعضهم مِن أقسام "القلب" ما يكون فيه تصحيح مذهب المعترِض مع إبطال مذهب المستدِل تصريحًا أو بغير تصريح.
فالأول: كما يقال في بيع الفضولي: عقد في حق الغير بلا ولاية؛ فلا يصح، كالشراء له.
فيقول المعترِض: تَصرُّف في مال الغير بلا ولاية؛ فيصح، كالشراء للغير، فإنه يصح للمشترِي وإنْ لم يصح لمن اشترى له.
والثاني: كقول الحنفي في الصوم في الاعتكاف: لبث في محل مخصوص؛ فلا يكون قُربة بنفسه، كالوقوف بعرفة. وغرضه التعرض لاشتراط الصوم فيه، ولكن لم يتمكن مِن التصريح به؛ لأنه لا أصل له يقيسه عليه.
فيقول الشافعي للمعترض: لبث في محل مخصوص؛ فلا يشترط فيه الصوم، كالوقوف بعرفة.
فقد تَعرَّض للعلة بتصريحه بنقيض المقصود.
نعم، قال إمام الحرمين في هذا المثال: إن الصوم عبادة مستقلة، فكونه شرطًا بعيد.
وانتُقِد عليه بأنه لا بُعد؛ فإنَّ الإيمان عبادة في نفسه، وهو شرط في العبادات.
والفرق بين هذين القِسمين والقِسمين السابقين مِن الثلاثة المذكورة قبل التنبيهات: أنَّ ذينك قصد فيهما إبطال مذهب المستدِل تصريحًا أو ضمنًا فقط، وهذان قصد فيهما تصحيح مذهب المعترِض ومعه إبطال مذهب المستدِل تصريحًا أو بلا تصريح كما هو ظاهر لمن تأمله؛ فلذلك جمع في "جمع الجوامع" الأقسام الأربعة كما ذكرناه. والله أعلم.

الصفحة 102