الورقة الأولى من (ن 5)
نعم، جعلا الخلاف السابق في التعديل فيهما فقط، وجزَمَا في الجرح بالتعدد؛ لأنها شهادة على باطن مغيَّب.
لكن القاضي أبو [الطيب] (¬1) أَجرَى الخلاف في الأمرين -التعديل والجرح- كما ذكرناه أولًا.
فرع:
إذا اكتفينا بالواحد، فقد أَطلق في "المحصول" قبول تزكية المرأة.
وحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنًّ النساء لا يُقبَلن في التعديل، لا في شهادة ولا في رواية، ثم اختار قبول قولها فيهما كما تُقبَل روايتها وشهادتها في بعض المواضع.
وهذا جارٍ على اختياره في قبول الواحد في تزكية الشاهد كالراوي؛ بِنَاءً على أن ذلك مَحْض رواية.
وغيره يقول: شهادة -كما سبق عن المارودي والروياني أن ذلك منشأ الخلاف.
وأما تزكية العبد فقال القاضي: يجب قبولها في الخبر دون الشهادة؛ لأنَّ خبره مقبول وشهادته مردودة. وبه جزَم صاحب "المحصول" وغيره.
قال الخطيب: (والأصل في هذا سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - بريرة في قصة الإفك عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وجوابها له) (¬2).
قلت: هذا إن كان ذلك قبل أنْ تُعتق، فالإفك في الرابعة أو الخامسة، ويبقى النظر في تاريخ شراء عائشة وعتقها إياها.
¬__________
(¬1) كذا في (ز، ت، ش)، لكن في (ص): بكر.
(¬2) الكفاية في علم الرواية (ص 97).
"إنْ" - بالكسر والسكون - للشرط غالبًا، بل هي أَعم أدواته؛ لأنها الحرف الموضوع له، واستعمال ما عداها من أسماء الشرط كَـ "إذا" و"متى" إنما هو تضمين لها معناها؛ ولذلك كان العلة في بنائها.
والمراد بِـ "الشرط": تعليق حصول مضمون جملة لم يوجد على مضمون جملة أخرى لم يوجد، يكون سببًا له، إنْ وُجد وُجد، وإنِ انتفى انتفى. نحو: (إنْ قام زيد، قام عمرو). وربما نُزِّل قطعي الوجود أو الانتفاء منزلة المشكوك، فأدخل فيه الشرطية؛ لنكتة مُوضَّح أنواعها في علم البيان.
وتجيء "إنْ" نافية أيضًا، سواء عملت عمل "ليس" عند مَن يرى ذلك وهُم الكوفيون (كقراءة سعيد بن جبير: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]) أَم لم تعمل (نحو: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20]).
وزعم بعضهم أنها لا تكون نافية إلا وبعدها "إلَّا" أو "لَما"، نحو {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] على قراءة التشديد.
ورُد بنحو قوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [يونس: 68]، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111].
وقد تأتي زائدة، وذلك بعد النفي، كقوله: بني غدانة ما إن أنتم ذهب.
أي: ما أنتم ذهب.
ووقع لابن الحاجب أنها تزاد بعد "لما" الإيجابية.
ورُدَّ بأن تلك "أنْ" المفتوحة، نحو: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96].
أما "إنَّ" المشددة فللتأكيد، وسيأتي في "باب القياس" في طُرق العلة كوْنها للتعليل أوْ لا؛ فلذلك لم أذكرها هنا، والله أعلم.
وجوابه أن مَن يجعل العامل "إلا" كابن مالك، لا يَلزمه ذلك. ومَن لا يقول بذلك، قد يقول: حذف مِن المتقدم؛ لدلالة المتأخر. على أنَّ ابن مالك وغيره جوَّزوا ذلك في نحو: (جاء زيد وأتى عمرو العاقلان).
وقيل: يجب القطع. والله أعلم.
قولي: (وَإنْ رَأَيْتَ جُمَلَا) تتمته قولي بعده:
ص:
635 - أَوْ جُمْلَتَيْنِ بِاقْتِرَانِ أَمْرِ ... فَالِاسْتِوَا في الْحُكْمِ لَيْسَ يَجْرِي
الشرح:
وهو إشارة إلى المسألة المشهورة بأن دلالة الاقتران حُجة؟ أو لا؟
ولها مناسبة بالمسألة السابقة؛ لأن الاستثناء إذا أُعيد للجميع، وجب الاقتران في الاستثناء.
وحاصل هذه المسألة: أن القِران بين أمرين في اللفظ في حُكم هل يقتضي التسوية بينهما في غيره من الأحكام؟ أو لا؟
الجمهور على المنع، فيعطف واجب على مندوب، كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
وقال المزني وأبو يوسف من الحنفية: يقتضي التسوية؛ لأن العطف يقتضي المشاركة، نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]؛ فلذلك لا تجب الزكاة في مال الصبي؛ لأنه لو أريد دخوله في الزكاة لكان فيه عطف واجب على مندوب؛ لأن الصلاة عليه مندوبة اتفاقًا.
ووروده في الأدلة على ثلاثة أقسام:
أحدها:
أن يستنتج من الدليل ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه.
مثل أنْ يقول في المثقل: قتل بما يَقْتل غالبًا؛ فلا ينافي وجوب القصاص، كالإحراق.
فيقول المعترِض: عدم المنافاة ليس محل النزاع ولا يقتضيه، وأنا أقول بذلك أيضًا، ولا يكون ذلك دليلًا عَلَيَّ في محل النزاع الذي هو وجوب القصاص وهو ليس عدم المنافاة ولا ملازمه.
الثاني:
أنْ يستنتج منه إبطال ما يتوهم أنه مَأْخَذ مذهب الخصم.
كقولنا في القتل بالمثقل أيضًا: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص، كالتفاوت في المتوَسَّل إليه.
فيقول الخصم: أنا أقول بموجَب ذلك وهو التفاوت في الوسيلة، ولكن لا يَلْزَم مِن ذلك وجوب القصاص الذي هو محل النزاع؛ إذ لا يَلزم مِن إبطال كَوْن التفاوت في الوسيلة مانعًا انتفاءُ كل مانع ووجود الشرائط، فيجوز أنْ لا يجب القصاص؛ لِمانع آخَر أو لِفوات شرط أو لِعدم المقتضِي.
والصحيح أنَّ المعترض إذا قال: ليس هذا مَأْخَذِي، يُصَدَّق؛ لأنه أَعْرَف بمذهبه.
وقيل: لا يُصَدق إلا ببيان مَأْخَذ آخَر؛ إذ ربما كان ذلك مأخذه ولكنه مُعانِد.
ورُدَّ بأنه لو أوجبنا عليه ذِكر المأخذ فإنْ مَكَنَّا المستدِل من إبطاله، لَزِمَ قَلْبُ المستدِل معترِضًا والمعترض مستدِلًّا. وإنْ لم نمكنه فلا فائدة في إبداء المأخذ؛ لإمكان ادِّعائه ما لا