كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

تنبيه:
يُعتبر في الجرح ما سبق اعتباره في التعديل من اللفظ الدال وأهلية الجارح، ولكن لا يشترط هنا صحبته ولا اختباره؛ لأن سبب الجرح يجب بيانه ويكتفَى فيه بسبب واحد كما سيأتي.
فمن ألفاظ التجريح عند المحدثين سوى التصريح بفِسقه ونحوه مراتب أيضًا:
الأُولى: أن يقول: "كذاب"، أو: "يكذب"، أو: "وضَّاع"، أو: "يضع الحديث"، أو: "دجَّال"، أو: "متروك الحديث"، أو: "ذاهب الحديث"، أو: "ساقط لا يُكتَب حديثه". وإنما كان ذلك خارجًا عما استثنيته من التصريح بالفسق؛ لعدم استلزامه للفسق؛ لجواز أن يقع منه ذلك من غير قصد، أو نحو ذلك.
الثانية: أن يقول: "متهم بالكذب"، أو: "بالوضع"، أو: "ساقط"، أو: "هالك".
وفي رَأْيٍ أنَّ هذا مِن القِسم الذي قَبْله،
الثالثة: "رُدَّ حديثه"، أو "ردوا حديثه"، أو "مردود الحديث"، أو "ارْم به"، أو"ليس بشيء"، أو "لا شيء"، أو "لا يسوي شيئًا".
الرابعة: "ضعيف" أو"منكر الحديث" أو "حديثه منكر" أو "مضطرب" أو "واهٍ" أو "ضَعَّفوه" أو "لا يُحتج به".
الخامسة: "فيه مقال"، أو "ضُعِّف"، أو "في حديثه ضعف"، أو"يعرف ويُنكِر"، أو "ليس بذاك"، أو "ليس بالقوي"، أو "ليس بالمتين"، أو "ليس عمدةً"، أو"ليس بالمرضِي"، أو "طعنوا فيه"، أو "مطعون"، أو "سَيِّئ الحفظ"، أو "ليِّن"، أو "لين الحديث".
وهذه الأمور كلها محل بسطها كُتب علم الحديث، وفي هذه الإشارة كفاية.
وسيأتي في أمورٍ أخرى خِلاف: هل هي مِن الجرح؟ أو هل هي من التعديل؟ ذكرت
ص:
485 - وَمنْهُ: "أَوْ" شَكٌّ وَتَشْكِيكٌ، كَمَا ... إبَاحَةٌ، تَخْيِيرُهَا قَدْ عُلِمَا
486 - وَالْجَمْعُ، أَوْ مَعْنَى "إلَى" أَوْ "إلَّا" ... تَقْسِيمٌ، الْإضْرَابُ فِيهَا حَلَّا
487 - وَقِيلَ: وَالتَّقْرِيبَ أَيْضًا قَدْ [حَوَتْ] (¬1) ... وَالْبَاءُ لِلْإلْصَاقِ فِيمَا قَدْ ثَبَتْ
الشرح:
أي: ومن ذلك، أي: من بيان معاني الكلم أيضًا "أو"، وتَرِد لِمَعانٍ:
أحدها: الشك، وهو معنى قولي: ("أَوْ" شَكٌّ)، أي: [ذات] (¬2) معنى شك، فحذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه، وكذا ما عُطف على "شك" تقديره ما ذكرناه.
مثالها للشك: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19].
و[يشاركها] (¬3) "إما" في هذا المعنى وفي غالب ما يأتي، إلا أن الشك في "إما" [مبني] (¬4) عليه في الابتداء، و"أو" تأتي بعد الجزم، فيُبين بها الشك فيه.
ثانيها: التشكيك، وربما عُبر عنه بِـ "الإبهام"، وهو التعمية على المخاطَب مع أن المتكلم عالِم بالحال، نحو: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
وربفي عُبر عن هذا المعنى بِـ "الإيهام" (بالمثناة تحت) كما جوَّزه القرافي؛ لأن القصد التلبيس على السامع.
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ن). لكن في (ت، ش، ظ، ض، ق): جرت.
(¬2) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: كان.
(¬3) في (ق): تشاركها.
(¬4) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: يبنى.
وضُعِّف بأن الأصل في اشتراك المعطوف والمعطوف عليه إنما هو فيما ذكر، لا فيما سواه من الأمور الخارجية. وقد أجمعوا على أن اللفظين العامَّين إذا عُطف أحدهما على الآخر وخُصَّ أحدهما، لا يُقضَى بتخصيص الآخر.
على أنَّ إطلاق الخلاف عن أبي يوسف ومَن تبعه من الحنفية ليس بجيد؛ فإن الذي في كُتبهم التقييد بتعاطف الجُمَل الناقصة، نحو: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، لأن الجملتين حينئذٍ يصيران كالواحدة، والإشهاد في المفارقة غير واجب، فكذا في الرجعة.
بخلاف الجمل التامة، نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، لَمَّا كانتا مستقلتين، لم يَقْتَضِ ثبوتُ حُكم في إحداهما ثبوتَه في الأخرى.
وأما تفسير القِران بما ذكرناه فربما يخالفه تفسير الجدليين إياه بأنْ يجمع بين الشيئين في الأمر أو في النهي ثم يتبين حُكم أحدهما، فيُستدل بالقِران على ثبوت ذلك الحكم للآخر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة" (¬1). أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة، فَقَرَنَ البول فيه بالاغتسال منه، والبول فيه مفسدة، فكذلك الاغتسال.
وهو غير مَرْضِي عند المحققين؛ لاحتمال أن يكون النهي عن الاغتسال فيه لمعنى غَيْر المعنى الذي منع مِن البول فيه لأجله، ولعل المعنى في النهي عن الاغتسال فيه أنه لا يرفع جنابته كما هو مذهب الخضري.
¬__________
(¬1) سنن أبي داود (رقم: 70)، مسند أحمد (9594)، وغيرهما. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود: 70).
يَصْلُح؛ ترويجًا لكلامه.
قال ابن الحاجب: (وأكثر القول بالموجَب هذا القِسم) (¬1).
أي: الذي يستنتج فيه إبطال ما يتوهم أنه مأخذ الخصم ولم يكن كذلك. وإنما كان هذا أكثر لخفاء المآخِذ وقلَّة العارفين بها والمطَّلِعين على أسرارها، بخلاف محَالّ الخلاف، فإنَّ ذلك مشهور، فكَم مَن يَعرف محل الخلاف ولكن لا يَعْرف المأخذ.
وهذان المثالان فيما إذا كان ذلك في جانب النفي، ولكن قد يكون ذلك في إثبات، نحو: الخيل يُسابَق عليها؛ فتجب فيها الزكاة، كالإبل.
فنقول بالموجَب لكن زكاة التجارة، والنزاع في زكاة العين. ودليلكم إنما أنتج الزكاة في الجملة.
فإنِ ادَّعى أنه إنما أراد زكاة العين، فليس هذا قولًا بالموجَب.
فيقال: العبرة بدلالة اللفظ، لا بقرينته. كذا أجاب الهندي.
ولكن قد يقال: إذا كانت اللام للعهد، فالعهد مُقَدَّم على الجنس والعموم.
ثُم العلة ليست مناسبة لزكاة التجارة، إنما المناسب المقتضي هو النماء الحاصل.
الثالث:
أن يكون دليل المستدِل مقتصرًا فيه على المقدمة الكبرى مسكوتًا عن الصغرى. فيرد القول بالموجب من أجل حذفها.
مثل أنْ يقول الشافعي في وجوب نية الوضوء: كُلما ثبت أنه قُربة، اشتُرِط فيه النية، كالصلاة. وَيسكت عن قوله: الوضوء قُربة.
¬__________
(¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1166)، الناشر: دار ابن حزم.

الصفحة 105