[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] (¬1)
[قال الشيخ الإمام العلَّامة شمس الدين محمد بن عبد الدائم بن موسى البرماوي الشافعي تغمده الله بغفرانه، وأسكنه بحبوحة جنانه] (¬2):
الحمد لله الذي شرح الصدور بكتابه المبين وشَفَاها، وبَيَّنَ ما نزَّل بِسُنة نَبِيِّه محمد المصطفى فِعْلًا وشِفاهًا، وعَصَم أُمَّته من الخطأ، فَمَن شذَّ عنهم ركب ضلالة وسِفَاها، ومَن حاد عن سَنَن قياس شَرْعه بَذَّ (¬3) السفهاء سِفَاها، فأصبحت أحكام فِقهه بوضوح أَوْضاح أدلتها تتباهى، وتراجيحُ سنَاها لا تتناهى، وانفتح للمجتهدين بذلك صَوبُ صَواب فتواها. فصلى الله على محمد المخصوص بعموم الرسالة فجَلَّاها، ومَحَى دُجَى ليل الجهل مِن الأمم إذا يغشاها، قد أفلح مَن زكاها، وقد خاب مَن دساها، وعلى آله وصحبه ما بَلغَ أُولو النُّهى [البَهِي] (¬4) مُناها. أمَّا بَعْد:
فهذا تعليق مبارك على أرجوزتي المُسَمَّاة بِـ "النُّبْذة الألفيَّة في الأُصول الفقهية"، يوضحُ أسرارها، ويكشف أستارها، مع فوائد مَزِيدة، ولطائف عديدة، والتعرض للخلاف المشهور، وبعض أدلة تُرَى كالصارم المشهور، سمَّيتُه "الفوائد السَّنية في شرح الألفية"،
¬__________
(¬1) في (ت) زيادة: (وهو حسبي ونعم الوكيل). وفي (ز) زيادة: (وبه نستعين وعليه توكلت).
(¬2) في (ص): (قال الفقير إلى رحمة ربه الغني محمد بن عبد الدائم بن موسى البرماوي الشافعي عفا الله عنه والمسلمين).
(¬3) العرب تقول: بَذَّ فلان فلانًا يَبُذُّهُ: إذا ما علاه وَفَاقَه في حُسْنٍ أو عملٍ كائنًا ما كان، وبَذَّهُ: غَلَبَه. (تهذيب اللغة، 14/ 298).
(¬4) في (ت): بالنهى.
الذي قد سلَّم المعنى وفرق في الأحكام بما لا يناسب.
فإن قلتَ: فأين اعتبار إمكان الترافُع في الشهادة دون الرواية في كلام الشافعي؟
قلتُ: من قوله: "وإنما يلزم المشهود عليه"؛ فإن اللزوم يستدعي مخاصمةً وترافُعًا.
فإنْ قيل: ليس فيما نقلتَ عن الشافعي ولا فيما نقله القرافي عن المازري ذكر ما يُعتبر في الشهادة مِن لفظ "أشهد" وكوْنه عند الحاكم أو المحكَّم أو سيِّد العبد والأَمة حيث سمع عليهما البيِّنة لإقامة الحدود إنْ جوَّزنا له ذلك، ولا ما أَشْبَه ذلك مما يختص بالشهادة.
قلتُ: إنما لم تُذكر؛ لِكونها أحكامًا وشروطًا خارجة عن الحقيقة، وعلى كل حالٍ فقد عُلِمَ مما سبق وجْه المناسبة فيما اختصت به الشهادة عن روايات الأخبار.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: (لأنَّ الغالب من المسلمين مَهابة الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف شهادة الزور؛ فاحتيج إلى الاستظهار في الشهادات. وأيضًا فقد ينفرد الحديث النبوي بشاهد واحد في المحاكمات وبهذا يظهر فيما سبق في تزكية الواحد في الرواية أنه لكونه أحوط. وأيضًا بيْن كثير من المسلمين إحَنٌ وعَداوات قد تحمل على شهادة الزور من بعضٍ، بخلاف الأخبار النبوية). انتهى ملخصًا.
وفَصَّل غيره المعنى فيما اعتُبِر في الشهادة:
أمَّا العَدد: فإنها لَمَّا تَعلقت بمُعَين، تَطرَّقت إليها التهمة باحتمال العداوة؛ فاحتيط بإبعاد التهمة بالعدد، بخلاف الرواية. وسيأتي آخِر الفصل الإشارة إلى خلاف ضعيف في اشتراطه في الرواية أيضًا.
وأما الذكورة حيث اشتُرِطت: فلأن إلزام المعيَّن فيه نوع سلطنة وقَهْر، والنفوس تأباه ولاسيما من النساء؛ لنقص عقولهن ودِينهن، بخلاف الرواية؛ لأنها عامة تتأسى فيها النفوس، فَيَخِفُّ الألم، وأيضًا فلنقص النساء يكثُر غلطُهن، ولا ينكشف ذلك غالبًا في
له في نواصب المضارع.
تاسعها: الإضراب، نحو: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، أي: بل يزيدون، أي: عند مَن لا يجعلها لمطلق الجمع في الآية.
ثم قيل: إنها تأتي للإضراب مطلقًا.
وعن سيبويه: لا تجيء إلا بشرطين: تَقدُّم نفي أو نهي، وإعادة العامل، نحو: (ما قام زيد أو ما قام عمرو)، و (لا يَقُم زيد أو لا يَقُم عمرو).
عاشرها: التقريب. ذكره الحريري، ولم يذكره الأكثرون؛ فلذلك عبَّرتُ فيه بقولي: (قِيلَ). ومثله بقولهم: (ما أَدْرِي أَسَلَّم أو وَدعَّ). أي: لسرعته فينْ كان يَعلم أنه سَلَّم. ونحو: ما أدري أَأَذَّن أو أقام.
وظاهر كلام ابن هشام في "المغني" أن الحريري ابتكر ذلك، وليس كذلك؛ فقد سبقه إليه أبو البقاء في "إعرابه" وجعل منه: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77].
وبالجملة فقد رُدَّ هذا القول بأنه لم يخرج عن معنى الشك، وأن القُرْب هو المقتضي للشك، وأما في الآية فيكون للتشكيك؛ لِتَعذُّر كونه للشك.
وفيه نظر؛ فإن هذه المعاني كلها إذا حُققت، ترجع إلى شيء واحد وهو أحد الشيئين أو الأشياء؛ ولهذا قيل: إنها للقَدْر المشترك بينها وهو ذلك، وما عدا ذلك فمستفاد من قرائن خارجية. فمَن عدَّد وغايَر بين المعاني فإنما قصد باعتبار تلك الأمور، فين كان لها قرينة خارجية فلا [تُنافي] (¬1) عَدَّ التقريب.
¬__________
(¬1) في (ت، ق، ظ): ينافي.
التعبير به فيما سيأتي من المباحث.
أما "الشرط" اللغوي فيرجع إلى السبب؛ لأنه يَلزم مِن وجوده الوجودُ ومن عَدَمِه العدمُ كما قرره القرافي في كتاب "الفروق"، ولكنه بطريق وضع المتكلم ذلك بنطقه.
قال القرافي: وإطلاق "الشرط" على هذا وعلى الذي سبق يمكن أن يكون بالاشتراك ويمكن أن يكون بالحقيقة في أحدهما والمجاز في الآخَر، وأنْ يكون بالتواطؤ (¬1).
قلتُ: دعوى التواطؤ بإبداء مَعْنى مشترك بين الإطلاقين إنْ صح فهو أَصوب؛ لأنه خير مِن الاشتراك والمجاز، ولأنه يكون جوابًا لتعريف الأئمة "الشرط" -الذي هو مِن المخصِّصات- بما يتوقف عليه تعريف المعرِّف أو تأثير المؤثِّر أو بما يَلزم مِن عدمه العدمُ، ولا يَلزم مِن وجوده وجودٌ ولا عدمٌ.
وتصحيح قول القرافي وغيره أن الشروط اللغوية أسباب، وتقرير ذلك أنَّ القائل: (إنْ دخلت الدار فأنتِ طالق) فيه ثلاثة أمور:
تَلفُّظ بهذا الشرط، ووقوع المعلَّق عليه وهو دخول الدار، ووقوع المعلَّق وهو الطلاق.
فمَن نظر إلى التلفُّظ ورأَى أنه هو الشرط، صَحَّ أنه يَلزم مِن عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته؛ إذ لا يَلزم مِن التعليقِ الطلاقُ ولا عدمُه. بل إنْ وُجِد المعلَّق عليه، طلقت، وإلا فلا. وَيلزم مِن عدمِ التعليق عدمُ الطلاق مِن هذه الحيثية.
ويقال فيه أيضًا: إنه يتوقف عليه تأثير المؤثِّر مِن حيث إنَّ إرادة الزوج الطلاق هو المؤثِّر في طلاقها إذا أَوْجَد لفظًا يقتضيه.
ومَن نظر إلى المعلَّق عليه وهو دخول الدار [وسَمَّاه] (¬2) "شرطًا" لِكونه يتوقف عليه تأثير
¬__________
(¬1) الفروق (1/ 107 - 108).
(¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س، ض، ت): فإنما يسميه.
ص:
866 - وَ"الْقَدْحُ": أَنْ يُخْدَشَ في الْمُنَاسَبَهْ ... أَوْ كَوْنهِ أَفْضي إلَى مَا نَاسَبَهْ
867 - أَوْ في انْضِبَاطٍ أَوْ ظُهُورٍ يُدَّعَى ... جَوَابُ كُلٍّ بِبيانِ الْمُدَّعَى
الشرح:
مِن القوادح في العِلِّيَّة أيضًا ما اشتهر بِاسْم "القدح"، وذكرت منه أربعة أنواع:
أحدها: القدح في مناسَبة الوصف للحكم المستدَل عليه؛ لِمَا يَلْزَم فيه مِن مفسدة راجحة على المصلحة التي مِن أَجْلها قُضِيَ عليه بالمناسبة أو مساوية لها؛ وذلك لِمَا سبق مِن أنَّ المناسبة تنخرم بالمعارضة.
وإنما أُعِيد ذلك هنا لأجْل التقسيم وبيان أن ذلك من جملة القوادح الواردة على المستدِل حتى يحتاج للجواب عنها بما سيأتي.
الثاني: القدح في صلاحية إفضاء الحكم إلى المقصود، وهو المصلحة المقصودة مِن شَرْع الحكم.
كما لو عَلل المستدِل حُرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب بين الرجال والنساء المؤدِّي إلى الفجور، فإذا تَأبَّد التحريم، انسَدَّ باب الطمع المفْضِي إلى مقدِّمات الهَمِّ والنظر المفْضِي إلى ذلك الفجور.
فيقول المعترِض: بل سد باب النكاح أفْضَى إلى الفجور؛ لأنَّ النفس تميل إلى الممنوع، كما قال:
والقلب يطلب من يجوز ويعتدي ... والنفس مائلة إلى الممنوع
ولكل شيء تشتهيه طلاوة ... مدفوعة إلا عن المدفوع