ضارِعًا إلى الله تعالى في أنْ ينفع بذلك، ويفتح به إلى هذا الفن المسالك، عليه توكلتُ وهو رب العرش العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
ص:
1 - بِاسْمِ الحمِيدِ قال عَبدٌ يَحْمَدُ ... ذَا البِرْمَوِيُّ الشافِعِيْ مُحَمَّدُ
2 - الحمْدُ للهِ الذِي مَنْ وَفَّقَا ... لِلْفِقْهِ في الدِّينِ وأَصلِهِ، ارْتَقَا
3 - ثُمَّ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ [الأَبَدِي] (¬1) ... عَلَى النَّبِيِّ الهاشِمِيْ [مُحَمَّدِ] (¬2)
4 - وآلِهِ وصحْبِهِ والتُّبَّعِ ... عَلَى الهُدَى بِهَدْيِهِ المُتَّبَعِ
الشرح:
القصد الابتداء بحمد الله؛ لحديث: "كل أَمْرٍ ذِي بالٍ لا يُبدَأ فيه بحمد الله فهو أجْذَمُ" (¬3). رواه أبو داود وغَيْره. وجَرَت عادة كثير أنْ يبدءوا تصنيفهم بِـ "قال فُلان"، ثُم يأتوا بالحمد، كقول ابن مالك (¬4):
قال محمد هو ابن مالك ... أحمد ربي الله خير مالك
¬__________
(¬1) في (ص): أبدا.
(¬2) في (ص): أحمدا.
(¬3) سنن أبي داود (4840)، قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 4840)، وانظر كلام الحافظ ابن الملقن عليه في (البدر المنير، 7/ 528).
وهو في صحيح ابن حبان (رقم: 1) وغيره بلفظ: "فهو أقطع". قال الألباني: ضعيف. (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: 1).
(¬4) ألفية ابن مالك (ص 67)، الناشر: دار المنهاج بالرياض، تحقيق: سليمان العُيُوني.
الشهادة؛ لانقضائها بانقضاء زمانها، بخلاف الرواية؛ فإنَّ بتعلقها بالعموم يقع الكشف عنها؛ فيتبَيَّن ما عساه وقع من البراءة مِن غلطٍ ونحوه.
وأما الحرية: فلأنَّ قهرَ العبيد صعبٌ على النفوس، وأيضًا فَقدْ يحمل الرق على الحقد في المعيَّن؛ لفوات الحرية، فيدخل بذلك من التُّهمة ما لا يَدخل في المتعلق بالعموم.
فلذلك أُكِّدَتْ بهذه الشروط وغيرها من انتفاء العداوة وفرط المحبة، كشهادة الأصل للفرع وعكسه، والشهادة بما يجر النفع أو يَدفع الضرر، وكذا التهمة في المبادرة، بخلاف الرواية. وهو معنى قولي: (لِأَجْلِ ذَاكَ) إلى آخِره، فالشرط المشهور هو ما ذكرناه ونحوه، فإنه زائد على شروط الرواية التي شاركت فيها الشهادة، وقد اتضح بحمد الله، والله أعلم.
ص:
305 وَقَدْ يُشَابُ الشَّيْءُ في الْأَحْكَامِ. . . مَعْنَاهُمَا، كَرُؤْيَةِ الصِّيَامِ
الشرح:
هذا تنبيه على أنَّ ما سبق إنما هو في الرواية المحضة (كالأحاديث النبوية) والشهادة المحضة (كالشهادة ببيع عين أو إجارة أو نكاح أو طلاق). وقد يكون الشيء فيه شائبتَا الرواية والشهادة، فتوزع الأحكام باعتبارهما بحسب المناسبة.
فمنه الخبر برؤية الهلال لرمضان، فإنه -من جهة عُمومه لأهل المصر أو الآفاق أو لغير البلد البعيد بمسافة القصر أو لمخالف المطلع على الخلاف في ذلك -رواية، ومن جهة اختصاصه بهذا العام وهذا القرن من الناس- شهادة.
فروعيت شائبة الشهادة باعتبار الحرية والذكورة -كما نَصَّ عليه الشافعي فيهما- ولفظ الشهادة على الأرجَح مِن الخلاف في الطُّرق، وكذا اعتبار كونه عند القاضي فيه خلاف.
وبذلك يجاب أيضًا عمَّا سبق من دخول بعض المعاني تحت بعض.
واعْلَم أن هذه المعاني لا تخلو مِن كونها في طلب أو خبر، فالإباحة والتخيير في الطلب ما لم يكن نهيًا نحو: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] فيكون مُنْصَبًّا على كُل منهما، خلافًا لابن كيسان في تجويزه في "لا تضرب زيدًا أو عمرًا" أن يكون النهي عن ضرب واحد وأنْ يكون عن الجمع.
قلتُ: ومن هنا أُخِذت مسألة تحريم واحد من خصلتين أو أكثر لا بِعَيْنه، وقد سبقت، والله أعلم.
قولي: (وَالْبَاءُ لِلْإلْصَاقِ فِيَما قَدْ ثَبَتْ) تتمته قولي بعده:
ص:
488 - حَقِيقَةً يَكُونُ أَوْ مَجَازَا ... أَوْ سَبَبًا، أَوْ مُسْتَعَانًا [حَازَا] (¬1)
489 - أَوْ صُحْبَةً، ظَرْفِيَّةً، أَوْ بَدَلَا ... تَقَابُلًا، وَقَسَمًا، وَ"عَنْ"، "عَلَى"
الشرح:
والمعنى أن الباء لها مَعَانٍ:
أحدها: الإلصاق، وهو أنْ يضاف الفعل إلى الاسم ويلصق به بعد ما كان لا يضاف إليه لولا دخولها، نحو: "خُضْتُ الماء بِرِجْلي" و"مسحتُ برأسه".
وهو أصل معاني "الباء"، وعليه اقتصر سيبويه.
¬__________
(¬1) كذا في (ش، ن 1، ن 3، ن 4). لكن في سائر النُّسَخ: جازا. ويظهر أنَّ الصواب "حازَا"، لقول المؤلف في الشرح: (فَـ "مستعانًا" مَصْدر ميمي بمعنى "الاستعانة"، وهو مفعول بالفعل الذي بَعْده).
المؤثِّر وهو تعليق الزوج الطلاق، يقول: إنه صار سببًا [بوضع] (¬1) المتكلِّم، [فَلَزِمَ] (¬2) مِن وجوده الطلاقُ ومن عدمِه عدمُ الطلاق مِن هذه الحيثية.
وربما يدعي في الشرط نفسه أنه سبب شرعي، إما لأنه المؤثِّر عند وجود المعلَّق عليه هاما لأنه سبب لكون الدخول صار سببًا، وسَببُ السببِ سَببٌ وإن كان بواسطة كما قرره القرافي في الكتاب المذكور أيضًا.
واعْلَم أنه وقع في باب "القياس" مِن "البرهان" لإمام الحرمين أنَّ للشرط دلالتين:
إحداهما: مصرح بها، وهي إثبات المشروط عند ثبوت الشرط.
والأخرى: ضمنية، وهي الانتفاء.
والذي ذكره غيره من الأصوليين أن الشرط لا دلالة له في الإثبات بحال، وإنما يدل في [جانب] (¬3) الانتفاء خاصة.
وعلى ما قاله يَلزم اتحاد الشرط مع العلة، ورَدَّ عليه الأبياري في "شرحه" وأطال في ذلك، وكذا أبو العباس ابن المنير قال: وما حمله على ذلك إلا رؤيته العِلل تُستعمل بصيغة الشرط كثيرًا؛ فاعتقد أن الشرط اللغوي عِلة.
ثم أوَّلَ كلامه بان دخول الدار -مثلًا- ليس عِلة للطلاق شرعًا ابتداءً، لكنه يجوز أن يكون عِلة بوضع المطلِّق وغرضه؛ لأنه قد فَوَّض الشرعُ إليه إيقاعَ الطلاق بلا سبب، فيَلزم أنْ يفوِّض إليه إيقاعَه بوضع سبب له؛ ولهذا لا يقع التعليق غالبًا مِن مُطلِّق إلا لِغرض في مَنعْ المعلَّق عليه.
¬__________
(¬1) في (ص، ق): لوضع.
(¬2) كذا في (ص)، لكن في سائر النسخ: يلزم.
(¬3) في (ت): حال.
الثالث: القدح في أنَّ الوصف منضبط، بل هو مضطرب، كالتعليل بالحكمة.
كالمشقة في القَصْر، والزَّجْر في التعزير، والحرج في الفطر، فإنها لا تتميز، وتختلف بالأشخاص والأحوال والزمان؛ فلا يمكن تعيين القَدْر المقصود منها.
الرابع: القدح في كون الوصف ظاهرًا، بل هو خفي.
كالرضا في العقود، والقصد في الأفعال الدالة على الإزهاق في وجوب القصاص؛ فإنَّ الحكم الشرعي خفي، والخفي لا يُعَرِّف الخفي.
قولي: (جَوَابُ كُلٍّ بِبَيَانِ الْمُدَّعَى) إشارة إلى أنَّ طريق المستدِل في دفع كل واحد مِن هذه الأربعة ببيان ما ادَّعاه في كل منها.
فأما الأول: فجوابه ببيان ترجيح تلك المصلحة التي في العِلة على تلك المفسدة التي يُعترَض بها تفصيلًا وإجمالًا.
وأما الثاني: فجوابه تبيين أنَّ التأبيد يمنع عادةً مِن ذلك بانسداد باب الطمع؛ فيصير بتطاوُل الأمر وتماديه كالطبيعي بحيث لا يبقى المَحل مُشْتَهى، كالأُمهات.
وأما الثالث: فجوابه ببيان أنه منضبط:
- إما بنفسه، كما تقول في المشقة والمضرة: إنه منضبط عُرفًا؛ بِناء على جواز التعليل بالحكمة إذا انضبطت، وقد سبق بيان ذلك.
- وإما بوصفه، بأنْ تكون العلة هي الوصف المنضبط المشتمل على الحكمة، كالمشقة في السفر، والزجر بالحد في الزنا بمائة جلدة والقذف بثمانين، ونحو ذلك.
وأما الرابع: فجوابه بأنْ يُبين ظهوره بصفة ظاهرة، كضبط "الرِّضَا" بما يدل عليه مِن الصّيَغ، وضبط "العَمْد" بفعل يدل عليه عادةً، كاستعمال الجارح والمثقل أو غير ذلك مما هو مبسوط في محله من الفقه. والله أعلم.