فيفوت غرض الابتداء بالحمد حتى يجاب عنه إمَّا بأنه كَتَب البسملة أولًا، أو بأن المقصود هو ما بعد وقد بدأه بالحمد، أو نحو ذلك؛ فحافظتُ في هذا النَّظْم على الابتداء بِاسْم الله عز وجل في أَصْل النَّظْم بقولي: (بِاسْم الحميد). ثم قلتُ: (الحمد لله)؛ على قاعدة الخُطَب؛ لِمَا في بعض الروايات بلفظ: "لا يُبدأ فيه بالحمد لله" (¬1). فالباء في قولي: (بِاسْم الحميد) متعلِّقة بحال محذوفة مِن فاعل "قال"، أيْ: مُتبَرِّكَا بِاسْم الحميد، أو نحو ذلك. و"الحميد" فَعِيل بمعنى مفعول؛ لأنه حمد نفسه، والخلق تحمده، أو بمعنى الفاعل؛ لأنه حامد لِنفسه ولمن شاء مِن خَلْقه.
ومعنى "الحمد": الثناء بالوصف الجميل، فخرج نحو ما جاء في الجنازة: "فأثنوا عليها شرًّا" (¬2). ومنهم مَن يزيد على ذلك: "على جهة التفضيل"؛ ليخرج نحو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، فإنه على جهة التهكم، لا على جهة التفضيل، ولكن هذا مجاز، إمَّا باعتبار ما كان في الدنيا (¬3)، وإمَّا باعتبار ضدّ حالته (¬4)؛ تَهكُّمًا عليه، والمجاز لا يُحْتَرز عنه في لفظ الحَدِّ؛ لانصرافه للحقيقة.
وجملة: "يحمد" صفة لِـ "عَبْد". ومفعول "وَفَّق" محذوف، هو العائد على "مَن" الشَّرطية، أيْ: وَفَّقَه. وكذلك مفعول جواب الشرط (وهو "ارتقى") حُذِفَ؛ لِيَعُم كل ما يصلح له أنْ يرْقَى إليه.
و"التوفيق" خَلْق قُدْرة الطاعة وداعِية فِعْلها، مأخوذ مِن معنى الموافقة؛ لأنَّ به يوافق
¬__________
(¬1) سنن أبي داود (رقم: 4840). وضعفه الألباني (ضعيف أبي داود: 4840).
(¬2) صحيح البخاري (رقم: 1301)، صحيح مسلم (رقم: 949) واللفظ للبخاري.
(¬3) كأنه قال: ذُق يَا مَن كُنت في الدنيا عزيزًا كريمًا.
(¬4) أَيْ إنه حين قال: "ذُق، إنك عزيز كريم". إنما قالها على سبيل التهكم، فهو يقصد ضد ذلك.
نعم، قَطع بالمنع ابن عبدان والغزالي والبغوي، ومن شهد فيه على شهادته يعتبر العدد على الأرجح.
وروعيت شائبة الرواية بالاكتفاء بواحدٍ على أصح قَوْلَي الشافعي المنصوص في أكثر كُتبه كما قاله الرافعي وغيره، وقطع به طائفة. والثاني: لا يُقبَل إلاَّ عدلان؛ تغليبًا للشهادة. وقال الربيع: إنَّ الشافعي رجع إليه. قيل: وينبغي أن يكون الفتوى.
ولكن في "الأم" في كتاب "الصيام [الصغير] (¬1) "أنَّ الاكتفاء بالواحد إنما هو للاحتياط في الصوم وإنْ كان هو في ذاته لا يقبل فيه إلا عدلان؛ فلا منافاة بين النصين حينئذ.
ولفظه: قال الشافعي: (فإنْ لم تر العامة هلال رمضان ورآه رجل عَدْل، أَقْبله؛ للأثر والاحتياط، أخبرنا الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن [أبيه] (¬2)، عن فاطمة بنت الحسين عليهما السلام: أنَّ رجُلًا شهد عند علي - رضي الله عنه - على رؤية هلال رمضان؛ فصام. وأحسبه قال: وأَمَر الناس بصيامه. وقال: أصوم يومًا من شعبان أَحبُّ إلَيَّ مِن أنْ أفطر يومًا من رمضان).
ثم قال الشافعي بعد ذلك: (ولا يجوز على رمضان إلا شاهدان) (¬3). انتهى
وللعمل في صوم رمضان دليل مِن: حديث ابن عباس فيما رواه الأربعة وغيرهم (¬4)، وحديث ابن عمر فيما رواه أبو داود وصححه الحاكم (¬5)، وغيره مما هو مشهور في الفقه.
¬__________
(¬1) كذا في (ز، ق، ظ، ت). لكن في (ص، ش، ض): التعبير.
(¬2) كذا في جميع النُّسَخ.
(¬3) الأم (2/ 103).
(¬4) صحيح مسلم (رقم: 1087).
(¬5) سنن أبي داود (رقم: 2320) وغيره، ولفظ أبي داود: (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله =
قال بعضهم: وكُل معنى جُعل لها لا ينفك عنه، وقد لا يكون مع الإلصاق غيره.
وقال عبد القاهر: وقولهم "الباء" للإلصاق إنْ حملناه على ظاهره، اقتضى إفادتها له في كل ما دخلت عليه، وهذا محُال؛ لأنها [تجيء] (¬1) مع الإلصاق نفسه، كقولك: "ألصقتُ كذا بكذا" و"لصق به". فلا بُدَّ من تأويل كلامهم بأن الملابسة فيه لملابسة، كقولك: ألصقه به.
وقولي: (حَقِيقَةً يَكُونُ أَوْ مَجَازَا) إشارة إلى تقسيم الإلصاق إلى:
حقيقة: وهو الأكثر، نحو: (أمسكت الحبل بيدي)، أي: [ألصقته] (¬2).
وإلى مجاز: نحو: "مررت بزيد"، فإنك لم تلصق المرور بنفس زيد، بل بمكان يقرب منه كما قرره الزمخشري وغيره.
الثاني: السببية، نحو: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40].
الثالث: الاستعانة، وهو معنى قولي: (أَوْ مُسْتَعَانًا حَازَا) فَـ "مستعانًا" مصدر ميمي بمعنى الاستعانة، وهو مفعول بالفعل الذي بعده، وباء الاستعانة هي الداخلة على آلة الفعل ونحوها، نحو: "كتبت بالقلم " و"قطعت بالسكين"، ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].
وقد أدرج في "التسهيل" هذا المعنى في السببية، وقال في "شرحه": (إن التعبير بالسببية أَوْلى؛ لأنه يستعمل في الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى، فإنها لا يقال فيها: "استعانة"، ويقال: "سببية") (¬3).
نعم، زاد في "التسهيل" التعليل، واستغنى عنه كثير بالسببية؛ لأن العِلة والسبب واحد.
¬__________
(¬1) في أكثر النسخ: تجر.
(¬2) في (ص): ألصقته به.
(¬3) شرح التسهيل (3/ 150).
قلتُ: ويشهد لهذا التأويل تمسُّك الإمام بقول القائل: (إنْ جئتني، أكرمتك)، فإنه يلزم مِن المجيء استحقاقُ الإكرام، فبَانَ مراده بما سبق في تقرير إطلاقات الشرط وأنه لا يريد أنَّ وجود المعلَّق عليه اقتضَى وجود المعلَّق؛ لذاته، بل للتعليق السابق والجَعْل.
وإذا تَقرر أن إطلاق "الشرط" على ذلك كله مِن قبيل [المتواطئ] (¬1)، صَحَّ تقسيم بعض المتأخرين "الشرط" إلى عقلي وعادي وشرعي ولغوي كما صنع القرافي، وذكر في "قواعده" مما يتميز به اللغوي أنه يمكن التعويض عنه وإبداله وإبطاله، بخلاف الثلاثة الأخرى.
قال: لأن القائل: "إنْ دخلت فأنت طالق" إذا نجز الثلاث، كان ذلك عوضًا عن سبب التعليق بسبب آخَر وهو التنجيز. وإذا قال: "إنْ رددتَ عبدي فَلَكَ هذا الدينار" ثم وهبه له، فقد أبدله بالهبة. وإذا علق الطلاق ثم قال: "نجزت ما علقته"، فقد أبطل التعليق بالتنجيز عند مَن يراه.
ويتميز اللغوي أيضًا بأنه ومشروطه دائمًا معدومات، وما عداه كل مِن الشرط والمشروط يكون وجودًا وعدمًا.
وأيضًا الشرط اللغوي قد يكون غير معلوم، فلا يقع مشروطه، كالتعليق على مشيئة الله -عز وجل- لطلاق أو عتق أو نحوهما.
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ق، ض)، لكن في (ت): التواطؤ.
ص:
868 - وَ"الْفَرْقُ": رَاجِعٌ إلَى مُعَارَضهْ ... في الْأَصْلِ أَوْ في الْفَرْعِ فِيمَا عَارَضَهْ
869 - وَذَا بِإبْدَاءٍ لِمَعْنًى فَارِقِ ... بَيْنَهُمَا مُبَيِّنَ التَّفَارُقِ
الشرح:
أي: ومن القوادح أيضًا "الفرق"، وهو: إبداء المعترِض معنى يحصل به الفرق بين الأصل والفرع حتى لا يلحق به في حُكمه. وذلك بأحد طريقين:
الأولى: أنْ يجعل المعترِض تَعَيُّن صورة الأصل المقِيس عليها هو العلة في الحكم.
كقول شافعي في وجوب النية في الوضوء: طهارة عن حدث؛ فاعتُبرت فيه النية، كالتيمم. كما قال الشافعي - رضي الله عنه -: طهارتان، فأنَّى تفترقان؟ !
فيقول المعترِض بِالفَرْق: العِلة في الأصل كَوْن الطهارة بتراب، لا مُطلَق الطهارة.
فذكر له خصوصية لا تعدوه، وهذا أَصْوب مِن قول بعضهم: إنَّ خصوصية كونها طهارة ضعيفة، فإنه يُرَدُّ بمشاركة وضوء دائم الحدث -كسلس البول والمذي- له في ذلك.
وأيضًا: فضَعْف الطهارة ليس هو المقتضِي لوجوب النية؛ فإنَّ القائل بالنية في الوضوء يوجبها في هذا الوضوء وغيره.
ونحو ذلك في قول الحنفي في التبييت: صوم عين؛ فيتأدَّى بالنية قبل الزوال، كالنفل.
فيقال: صوم نفل؛ فيبنى على السهولة؛ فجازَ بِنِيَّة متأخرة، بخلاف الفرض.
وبالجملة فهذا القسم راجع إلى مُعارَضة في الأصل، أي: معارَضة عِلة المستدِل فيه بعِلة أخرى، ولهذا بناه الجمهور -وجَرى عليه البيضاوي وغيرُه- على تعليل الحكم بِعِلَّتين فصاعدًا.