كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

و"مُعْرًى" حال مِن "أصول الفقه"، أَيْ: مُعرًى ذلك، أَيْ: أُعْري ما فيها مِن أصول الفقه مِن الخلَاف والأدلة؛ لِيَكُون أَسْرَع إلى ضَبْط الفن، وثبوت الراجح في الذهن، على قاعدة "الحاوي" في الفقه ونَظْمه، وألفية ابن مالك في النحو، ونَحْو ذلك، والمعْنَى: أنَّي لا ألْتَزِم ذلك، وربما أَتَعَرَّض لخلاف أو لدليل في النادر؛ فإنَّ القَصْدَ عَدَمُ التزام ذلك، لا التزام عَدَمه.
ومعنى قَوْلي: (وَنُبْذَتِي أَصلٌ لِذَا التأْصِيلِ) أَيْ: المقدمة التي جمعتها قَبْل ذلك خاليةً مِن الخلاف والدليل - وسمَّيتُها: "النبذة الزكية في القواعد الأصلية" - هي الأصل لهذا النَّظْم، فالمَرَدُّ إليها، والمحافظةُ على ما فيها إلَّا اليسير وكثيرًا مِن الأمثلة.
و"النُّبذة" بِضَم النون وبالذال المعجمة: الشيء اليسير، وفي حديث أُم عطية: "خذي نُبذةً مِن قسطٍ وأظفار" (¬1). وكثيرًا ما تُستعمل في الطيب ونحوه كما في الحديث؛ فلذلك قلتُ في التسْمية: (الزكية).
وقولي: (مع زَيْد) هو مَصدَر بمعنى الزيادة، أَيْ: مع زيادة قولك كذا.
وأشرتُ بقولي: "أصولنا" (وإن كان ليس مُلتزمًا في التسمية، بل يقال: في الأصول) إلى مراعاة أصول الشافعية في هذه الألفية حَسْب القدرة، وسأذكر في هذا الشرح ما يظهرُ مِن تفريعات في الفقه في بعض المسائل على ذلك إنْ شاء الله تعالى.
وقولي: (وَاللهَ رَبِّي) قُدِّمَ فيه المنصوب؛ لإفادة الاختصاص، مِثْل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، والله أعلم.
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 5028) بلفظ (ولا تمس طيبًا إلا أدنى طهرها إذا طهرت نبذة من قسط وأظفار)، صحيح مسلم (رقم: 938).
عباس وبين الناس" الحديث في "مسلم" وغيره (¬1). فالمخبِر عن المفتي كراوي الأحاديث الحُكمية وغيرها. أما الشهادة على الخط -على مذهب مَن يراها- فشبيهة بالقائف، وفيه ما سبق.
ومنه المترجم للقاضي وعنه، وإسماع القاضي الأصم والتبليغ عنه. والأصح فيهما اعتبار العددِ ولفظِ الشهادة.
ومنه المزكي عند القاضي المنصوب لذلك، متردد بينهما، والأصح ترجيح الشهادة.
ومنه الخارص، والأصح فيه الاكتفاء بواحد.
ومنه القاسم من جهة الحاكم، والأصح فيه الاكتفاء بواحد، لكن لشَبهه بالحاكم ففيه ما سبق في القائف. هذا إنْ لم يكن فيها تقويم وإلا فلا بد من العدد، إلا أن يفوض إليه سماع بيِّنة القيمة.
ومنه الطبيب في مواضع:
- في كوْن المشَمَّس يورث البرص إنْ قلنا بكراهته بقول الأطباء.
- وفي كون الماء يضر حتى يعْدل إلى التيمم. والأصح فيهما قبول الواحد؛ لأن ذلك لحقِّ الله في العبادات، فلا يؤكد بالعدد.
- وفي كون المرض مخوفًا حتى تعتبر التبرعات فيه من الثلث.
- والإخبار عن المجنون أنه يَنفعه التزوج. ولكن الأصح في هذين اعتبار العدد؛ لأنَّ فيه حق آدمي.
ومنه الإخبار بأنه عيب في المبيع إذا اختلف المتبايعان فيه.
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 87)، صحيح مسلم (رقم: 17).
ومنهم مَن يَرُدُّ هذا العنى أيضًا إلى السببية.
العاشر: الاستعلاء بمعنى "على"، كقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران: 75] (¬1). أي: على قنطار. وحكاه الإمام في "البرهان" عن الشافعي، ويؤيده قوله تعالى: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} الآية [يوسف: 64].
الحادى عشر: التبعيض، قاله الأصمعي والفارسي وابن مالك، مستدلين بقوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]، أي: منها. وخرج عليه قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. ومَن أَثبتها قَصَرها على ورودها مع الفعل المتعَدِّي.
وأنكر هذا العنى ابن جني، وأَوَّلوا ما استُدِل به على التضمين، أو أن التبعيض إنما استُفيد من القرائن.
ورَدَّ الإمام فخر الدين قول ابن جني بأن قوله ذلك شهادة نَفْي، فلا تُقْبل.
ولكن هو قَبْل ذلك قال: زَعَم قومٌ أخها للسببية، وهو ضعيف؛ لأنه لم يَقُل به أحد من أهل اللغة.
فيُقال له: هذه شهادة نَفْي أيضًا، فكيف ترتكبها؟ !
نعم، ابن دقيق العيد أجاب عن ذلك فيما كتبه على "فروع ابن الحاجب": ليس هو شهادة نَفْي، إنما هو إخبار مبني على ظن غالب مُستنِد إلى الاستقراء ممن هو أَهْل لذلك مُطَّلِع على لسان العرب، كما في سائر الاستقراءات لا يُقال فيها: شهادة نفي، وحينئذٍ فتتوقف مقابلته على ثبوت ذلك من كلامهم.
فيقال للشيخ: قال ابن مالك فى "شرح الكافية" (¬2): إن الفارسي في "التذكرة" أثبت
¬__________
(¬1) في جميع النُّسخ: (ومنهم من إن تأمنه بقنطار).
(¬2) شرح الكافية الشافية (2/ 807).
نعم، إنْ كان التعليق بِـ "إذَا" ونحوها فيقع في أول أزمنة العدم إذا مَضَى قَدْر زمن الفعل المعلَّق على عدمه ولم يفعل.
وكذا إذا كان التعليق [بفعل] (¬1) الكف، نحو: (إنْ كففتُ عن طلاقك) أو: (أمسكتُ) أو: (تركتُ).
فالإطلاق ليس بجيد.
ومما ذكروه أيضًا من المسائل أن كُلًّا من المعلَّق والمعلَّق عليه إما واحد أو عدد، والعدد إما [معلَّق] (¬2) بمجموعة أو بواحد منه، فهي تسعة أقسام مِن ضرب ثلاثة في ثلاثة، وأمثلتها ظاهرة؛ فلا نُطَوِّل بها.
ومما يذكر هنا أيضا أنَّ دخول الشرط على الشرط هل هو تعليق بالشرطين إذا اجتمعا سواء تَقدم أولهما على ثانيهما أوْ لا؟ أو أنَّ الشرط الثاني شرطٌ في الشرط الأول؟ كَـ: (إنْ دَخلت إنْ كَلَّمْت) يشترط وجود الكلام قبل الدخول.
الأرجح في مذهب الشافعي هذا، وأفرد الشيخ تقي الدين السبكي المسألة بالتصنيف.
ومثال المسألة قوله تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] المعنى: إنْ كان الله يريد أنْ يغويكم، فلا ينفعكم نُصحي إنْ أردتُ أنْ أنصح لكم.
الرابع: قولي: (بِأَدَاةٍ) أي: آلة موضوعة لذلك، (تُحْتَذَى) بالذال المعجمة، أي: يُقتدَى بها ويُجْرَى على مثالها. والله أعلم.
¬__________
(¬1) في (ص، ق): لفعل.
(¬2) في (ص): متعلق.
وذكر إمام الحرمين أنه الذي عليه جماهير الفقهاء؛ لأنَّ شرط علة الخصم خلُوها مِن المعارِض.
وزعم ابن السمعاني أنه عند المحققين أَضْعَف سؤال يُذكر، وليس مما تمس العلة التي نصبها العلل بوجه ما. وبالغ في الرد على الإمام.
ولخص ذلك ابن السبكي في "شرح المختصر" بما فيه مقنع، فليراجَع منه.
والحقُّ ما سبق أنه إذا كان معارَضة في الفرع فهو قادح؛ تفريعًا على سماع النقض وقَدْحه مطلقًا، وإنْ كان في الأصل فمبني على تَعدُّد العِلل.
الثاني:
اختُلف في أنه سؤال واحد؟ أو سؤالان؟
فقيل: واحد؛ لاتحاد المقصود منه وهو قطع الجمْع. فعَلَى هذا هو مقبول قطعًا.
وقال ابن سريج: سؤالان؛ لاشتماله على معارضه عِلة الأصل بِعِلة، ثم على معارضة الفرع بِعلة مستنبطة في جانب الفرع. وحينئذٍ ففي قبوله خلاف، فالمنع؛ لجمعه بين أسئلة مختلفة المراتب، فإنه ينبغي أن يكون كل سؤال على حياله، والقبول وهو الأصح ولو كان فيه جمع سؤالين؛ لأنه اضبط للغرض وأَجْمَع لشعث الكلام.
قال إمام الحرمين: (حاصل مذاهب الجدليين فيه ثلاثة: ردَّه؛ تفريعًا على رد المعارضة، وهو مذهب ساقط. وقول ابن سريج واختاره الأستاذ أبو إسحاق: أنه ليس سؤالًا، واحدًا، إنما هو معارضة معنى الأصل بمعنى، ومعارضة الفرع بِعلة مستقلة، ومعارضة العلة بِعلة [مقبول]) (¬1).
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ق، ش، ض)، لكن في (س): مقبولة.

الصفحة 113