كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

ص:
9 - أَبْوَابُها أَرْبَعَةٌ مُنَظَّمَهْ ... بَعْدَ الَّذِي جَعَلْتُهُ مُقَدِّمَهْ
الشرح: أَيْ: رتَّبتها على مقدمة وأربعة أبواب. المقدمة في تعريف هذا العِلم وفائدته واستمداده، وما يتصل بذلك من مقدِّمات ولواحق. والباب الأول في بيان أدلة الفقه وتفسيرها، والباب الثاني فيما يتوقف عليه الاستدلال بها، والباب الثالث في تَعارُض الأدلة وما حُكم ذلك، والباب الرابع في بيان مَن هو أَهْل للاستدلال بالأدلة، و [مُقابِلِه] (¬1).
ووَجْه ذلك أنَّ المبحوث عنه في هذا الكتاب أو في هذا العِلم إمَّا المقصود الأصلي وإمَّا المُتَوقِّف عليه المقصود. والثاني (¬2) المقدِّمة، والأول (¬3) الأبواب الأربعة التي بَيَّنَّاها؛ وذلك لأنَّ موضوع هذا العِلم الذي يُبحث فيه عن عوارضه الذاتية له هو أدلة الفقه، كَبَدن الإنسان بالنسبة إلى عِلم الطب. وأمَّا مسائل كل عِلم فهو ما يُبحث فيها عن أحكام تلك العوارض، فالبحث عن موضوعه هو الباب الأول.
والاستدلال بالأدلة لَمَّا تَوَقَّف على أمور، ذَكَرتُ هذه الأمور في الباب الثاني. ثُم هذه الأدلة إذَا تَمَّت وصَحَّت، ربما تتعارَض، فَمَا يُفْعَل فيها هو الباب الثالث.
ثُم ليْس كل أَحد يستطيع أنْ يستدل، ولا يُقَدِّم ما يُقَدَّم [و] (¬4) يُؤَخِّر ما يُؤَخَّر إلَّا مَن كان أَهْلًا، وهو "المجتهد"، فَبُيَّن في الباب الرابع، وذُكِر معه مُقابِلُه وهو "المقَلِّد" الذي ليس أَهْلًا للاستنباط. فالبحث عن مسائله وما يتصل بذلك هو الأبواب الثلاثة.
¬__________
(¬1) في (ش): مقابليه.
(¬2) أَيْ: المتوقف عليه المقصود.
(¬3) أَيْ: المقصود الأصلي.
(¬4) في (ت): ولا.
ومنه بعث الحكمين عند الشقاق بين الزوجين. والأصح العدد، لظاهر الآية. قال الرافعي: ويُشبه أن يقال: إن جعلناه تحكيمًا فلا يشترط العدد، أو توكيلًا فكذلك إلا في الخلع، فيكون على الخلاف في تولي الواحد طَرَفي العقد.
وغير ذلك من الفروع، وبسطها وبيان المعنى في ترجيح إحدى الشائبتين فيها والمدارك - محله الفقه، والله أعلم.
ص:
306 وَلَيْسَ في التَّعْدِيلِ ذِكْرُ السَّبَبِ. . . شَرْطًا، خِلَافَ الْجَرْحِ [في] (¬1) التَّجَنُّبِ
307 لِكَثْرَةِ الْخِلَافِ في أَسْبَابِهِ. . . وَلِلْغِنَى بِوَاحِدٍ في بَابِه
الشرح:
اختُلف في كل من الجرح والتعديل -هل يُقبل مِن غير ذِكر سببه؟ أو لا؟ - على أقوال منشؤها أن المجرِّح والمعدِّل مخبِر فيصدق، أو حاكم ومُفْت فلا يقلد.
أحدها وهو الصحيح المنصوص للشافعي، قال القرطبي: وهو الأكثر من قول مالك. قال الخطيب: (وذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم) (¬2). وعليه اقتصرتُ في النَّظم: التفريق بين التعديل فيُقبل بلا تفسير، والجرح فلا يُقبل إلا مع ذِكر السبب؛ لأمرين ذكرتهما:
أحدهما: كثرة الاختلاف في أسباب الجرح، بخلاف التعديل.
¬__________
(¬1) في (ن): ذي.
(¬2) الكفاية في علم الرواية (ص 108).
مجيئها للتبعيض كما أثبته الأصمعي من قول الشاعر:
شَرِبْنَ بماء البَحْر ثُم ترَفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لهُنَّ نَئِيجُ
وقال الشيخ في "شرح الإلمام": إن المثبتين للتبعيض فرقوا بين الفعل المتعدي بنفسه فتكون فيه للتبعيض؛ حذرًا من زيادتها، وبين غير المتعدي فلا يكون كذلك.
واعتُرض بأن كونها زائدة لا يُنافي أن تكون حينئذٍ للتبعيض. ولو سُلِّم أن الأصل عدم الزيادة لكن هذا الأصل متروك إذا دَل دليل على تركه، وقد دل دليل عليه، وهو عدم كونها للتبعيض بالاستقراء ممن هو أَهْل للاستقراء؛ فوَجَبَ الحمل على أنها زائدة.
هذا مع أن الزيادة في الحروف كثيرة، قال ابن العربي: إنها تفيد فائدة غير التبعيض، وهو الدلالة على ممسوح به. قال: والأصل فيه: "امسحوا برؤوسكم الماء"، فيكون من باب القلب، والأصل: رؤوسكم بالماء.

تنبيهان
أحدهما: الحرف إذا وافق حرفًا آخر في معناه فمرة يُعَبرون عن المعنى صريحًا، ومرة يحيلون على ذلك الحرف، فيقولون: بمعنى كذا. والأمر في ذلك سهل، غَيْر أن التعبير الثاني إنما يكون غالبًا عند اشتهار ذلك الحرف في ذلك المعنى. وسنذكر خِلاف البصريين والكوفيين: هل [تتعارض الحروف] (¬1) في المعنى؟ أو لا؟
الثاني: أهملتُ من معاني ما ذكرت من الأدوات كثيرًا؛ إما اقتصارًا على الأشهر، وإما لأن ذِكره أنفع في الاستدلال، أو لغير ذلك. وربما كان ذلك اختصارًا، ولكني أذكر ذلك في
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ): يتعارض الحرف. وفي (ق): يتقارض الحرف.
ص:
638 - وَهْوَ كَالِاسْتِثْنَاءِ في [اتِّصَالِ] (¬1) ... وَمَا مَضَى، وَالْعَوْدُ بِالتَّوَالِي
639 - لِلْكُل أَوْلَى، وَكَذَاكَ الْأَكْثَرُ ... يَخْرُجُ فِيهِ حَسْبَمَا قَدْ حَرَّرُوا
الشرح:
اشتمل البيتان على ثلاث مسائل سبق نظيرها في الاستثناء، فيأتي فيها مِثله بوفاق أو خلاف.
إحداها: هل يُشترط في الشرط الاتصال كما في الاستثناء؟
الثانية: عَوْد الشرط المتعقِّب لِجُمَل أو مفردات لكُلها، لا للأخِير فقط.
وإليها أشرت بقولي: (وَمَا مَضَى). أي: وهو كالاستثناء أيضًا في الذي مضى من مفردات أو جُمل، أي: في عَوْده لكلها، بل عوده في الشرط للكل أَوْلى مِن الاستثناء، لِمَا سنبينه.
الثالثة: يجوز إخراج أكثر المفردات بالشرط كما يجوز -على المرجَّح- بالاستثناء.

فأما المسألة الأولى:
وهي أنه يُشترط الاتصال في الشرط فبلا خِلاف وإنْ جرى في الاستثناء.
نعم، سبق أن التعليق بـ "إنْ شاء الله " يسمى "استثناءً" وأنه من محل الخلاف في اتصال الاستثناء، وأنَّ عند بعضهم أنه هو محل الخلاف لا مُطلق الاستثناء، فليكن ذلك خارجًا من محل الاتفاق في الشرط.
¬__________
(¬1) في (ت، س): (الاتصال). ولا يصح معه الوزن.
قال: (والثالث المختار أنه مقبول مطلقًا، هو ما ارتضاه كلُّ مَن ينتمي إلى التحقيق) (¬1).
فعُلم أنَّ القائل بأنه سؤالان لم يَقبله على أنه فرق، بل معارضة.
الثالث:
إذا قلنا: قادح، فقيل: يجب على الفارق نفيه عن الفرع؛ لأنَّ قصده افتراق صورتين.
وقيل: لا يجب.
وقيل بالتفصيل بين أن يصرح في أفراد الفرق بالافتراق بين الأصل والفرع فلا بُد من نفيه عنه، وإنْ لم يصرح بل قصد المعارضة ودليله غير تام فلا.
وقال المقترح: إنه أقرب إلى الصواب.
هذا إذا كان المقيس عليه واحدًا، فإنْ تَعدَّد، فقيل بالمنع؛ لإفضائه للانتشار مع إمكان حصول المقصود بواحد منها. وهو المختار ولو جاز تَعدُّد العِلل.
وقيل: يجوز؛ لِما فيه من تكثير الأدلة، وهو أقوى في إفادة الظن.
نعم، إذا فرَّعنا على جواز التعدد إذا فرق المعترض بين أصل واحد وبين الفرع، هل يكفيه ذلك؟ الأصح كما قاله الهندي: نعم؛ لأنَّ غرض المستدِل الإلحاق بالأصول كلها وإلا لم يعدده.
والثاني: يحتاج أن يفرق بين الفرع وبين كل واحد.
وقال الهندي: (المختار إنْ كان غرض المستدل مِن الأقيسة المتعددة إثبات المطلوب بصفة الرجحان وغلبة الظن المخصوص، فالفرق المذكور قادح في غرضه ومُحَصِّل لغرض المعترِض. وإنْ كان غرضه إثبات أصل المطلوب أو إثباته برجحان فمهما بقي قياس واحد
¬__________
(¬1) البرهان في أصول الفقه (2/ 690 - 691).

الصفحة 114