و"المُقَدِّمة" بِكَسر الدال: كلام متقدم أمام المقصود؛ لتَوَقُّفه عليه أو انتفاعه به بِوَجْهٍ، كمقدمة الجيش طائفة تتقَدَّمه. وهو مِن "قَدَّم" بمعنى: تَقدَّم، كما في قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، أَيْ: لا تتقدَّموا. وقد تفتح الدال؛ لأنَّ صاحب الكلام أو أمير الجيش قَدَّمها، أو لأنها مُشبهة بمقدمة الرَّحْل، وهي ما أمام الراكب مقابلة لمؤخرته وهي ما وراءه. وعلى الفتح جَرَى الشيخ أبو حيان، وادَّعَى أنَّ تجويز الكسر مِن تغييرات النَّقَلة، واقتصر جَمْعٌ على الكسر، والحقُّ جواز الوجهين بالاعتبارين، والله تعالى أعلم.
المقدمة
10 - أَقُولُ فِيهَا: حَقُّ كُلِّ مَنْ طَلَبْ ... عِلْمًا تَصَوُّرٌ لَهُ قَدِ انْتَسَبْ
11 - مِنْ حَيْثُ مَعْنًى جَامِعٌ لِكَثْرَتِهْ ... لَا جِهَةُ التَّفْصِيلِ في حَقِيقَتِهْ
12 - فَطَلَبُ المجْهُولِ مُسْتَحِيلُ ... وَمَنْ يُحَصِّلْ حاصِلًا، مَطْلُولُ
13 - وَالْعِلْمُ بِالْغَايَةِ [مِنْهُ] (¬1) بَعْدُ ... نَفْيًا لِمَا في عَبَثٍ يُعَدُّ
14 - وَمَا اسْتُمدَّ مِنْهُ كَيْ يَرْجِعَ لَهْ ... إنْ رَامَ تحْقِيقَ الَّذِي قَدْ حَصَّلَهْ
الشرح:
بدأتُ هذه المقدمة بقاعدةٍ كُلية، وهي أنَّ حق كُل مَن [حاول] (¬2) عِلْمًا مِن العلوم وطَلَب معرفته أنْ يَعْرِف أمورًا ثلاثة:
¬__________
(¬1) كذا في (ش، ق، ص). لكن في (ت، ز، ر، ن 1، ن 2، ن 3، ن 5): فيه. وفي (ن 4): فيها.
(¬2) في (ز): طلب.
والثاني: أن أسباب العدالة كثيرة ولا بُد مِن ذِكر الكل؛ فيشق ذِكرُها بأن يقول المُعدِّل: (ليس يفعل كذا ولا كذا) إلى آخِر المجتنَبات، و: (يفعل كذا ويفعل كذا) إلى آخِر الطاعات المرتكَبات، بخلاف الجرح، فإنَّ ذِكرَ الواحد من أسبابه يُغْني في ثبوت الجرح.
قالوا: وربما استُفْسِر الجارح فذكر ما ليس بجرح، فروى الخطيب بسنده [لأبي] (¬1) جعفر المدائني قال: قيل لشعبة: لِمَ تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذون؛ فتركت حديثه.
إلى غير ذلك مما يُظن جرحًا وليس بجرح، وهو معنى ثالث لكن يمكن دخوله في الأول، فإنه اختلاف في السبب وإنْ كان القول بأحدهما وَهمًا أو نحو ذلك.
قلت: لكن ركض البرذون ربما يكون مفسقًا أو مخلًّا بالمروءة، فلا ينبغي أن يمثَّل به لذلك.
وفي أنواع الشهادات مواضع أخرى اختُلف في الإطلاق فيها هل يكتفَى به؟ أو لا بُد من السبب؟ وهي مختلفة ترجيحًا وجزمًا، ليس ذلك موضع بسطها، تَعَرَّض لكثير منها العلائي في "قواعده" وغيره.
القول الثاني: عكس الأول، وهو أنه يُقبل الجرح بلا تفسير، ولا يقبل التعديل إلا مفسَّرًا؛ لأن أسباب العدالة يَكثُر التصنع فيها، فيبني فيها المعدِّل على الظاهر. حكاه صاحب "المحصول" وغيره، ونقله إمام الحرمين في "البرهان" والغزالي في "المنخول" وإلْكِيَا في "التلويح" وابن بَرهان في "الأوسط" عن القاضي أبي بكر؛ لكن المعروف عنه ما سيأتي.
الثالث: يُعتبر في كلٍّ منهما ذِكر سببه؛ لأنَّه قد يجرح بما لا يقدح، وقد يبني المعدِّل على الظاهر والأمر بخلافه. حكاه الخطيب والأصوليون، وبه قال الماوردي أيضًا، قال: وقد
¬__________
(¬1) كذا في (ز) وهو الصواب كما في (الكفاية، ص 111). وفي سائر النُّسخ: لأبي محمد بن.
الشرح تكميلًا للفائدة:
فمِن معاني الباء مما لم أذكره:
الغاية: نحو: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100]. أي: أحسن إلَيَ.
ومنها: مجيئها للتوكيد، وهي الزائدة:
- إما مع فاعل، نحو: "أحسن بزيد" على قول البصريين: (إن "بِزَيْد" فاعل زِيدَ فيه الباء). فأما على قول الكوفيين: (إنه مفعول) فهي مُعدِّية، لا زائدة.
- وإما مع المفعول، نحو: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25].
- أو مع المبتدأ، نحو: "بحسبك درهم".
- أو الخبر، نحو: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
ومن استعمالات "الباء" أيضًا أنه يدخل للتعدية، وتُسمَّى "باء النقل"، فتنقل الفاعل، فتصيِّره مفعولًا، نحو: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20]. ولابن مالك في التعبير عن هذا القِسم كلام تَعَقَّبه عليه أبو حيان وأُجِيب عنه، ومحل بسطه النحو، فلا نُطَوِّل به.
وذكر العبادي في كتاب "الزيادات" للباء معنى آخَر وهو التعليق، نحو: "أنت طالق بمشيئة الله أو بإرادته". أي: إن شاء الله، أو: إن أراد. فَعَلَى هذا لا تطلق؛ لأن اللغة كذلك، كما لو قال: (أنت طالق بدخول الدار). أي: إنْ دخلتِ.
قال: (أما لو قال: "أنت طالق بأمر الله" أو: بتقدير الله، أو: بحكم الله، أو: بعلم الله، فإنها تطلق في الحال). انتهى
وهذا يدل على أنه إنما أخذ هذه التفرقة من العُرف، لا من اللغة؛ لأن مسائل الفقه لا
وأما الثانية:
فقال الإمام في "المحصول": (اتفق الإمامان الشافعي وأبو حنيفة على رجوع الشرط إلى الكل، وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التي تليه، حتى إنه إنْ كان متأخرًا، اختص بالجملة الأخيرة، أو متقدمًا اختص بالأُولى. والمختار التوقف كما في الاستثناء) (¬1). انتهى
فتَحَصَّلنا منه على ثلاثة آراء في المسألة، ولا يبعد أن يجيء [هنا أيضًا] (¬2) توقُّف القاضي المذكور في الاستثناء.
نعم، هو أَولى بالعود إلى الكل من الاستثناء كما أشرت إليه في النَّظم؛ بدليل موافقة أبي حنيفة عليه، نحو: اكرِم تميمًا وأَعْطِ مُضَر إنْ نزلوا بك.
وفرق أبو حنيفة بأن الشرط له صَدْر الكلام، فهو مُقدَّم تقديرًا، وذلك لأنَّ الشرط إذا تأخر، فما سبق إما نفس الجواب أو دليل الجواب كما هو المرجَّح عند ابن مالك وغيره.
قال في "التسهيل": الأداة الشرط صَدْر الكلام، فإنْ تَقدم عليها شبيه بالجواب معنًى فهو دليل الجواب، وليس إياه، خلافًا للكوفيين والمبرد وأبي زيد) (¬3). انتهى
ولأجل ذلك قال في "شرح التسهيل" في "باب الاستثناء": (واتفق العلماء على تعلق الشرط بالجميع إذا تَقدَّم، فكذا المتأخر في نحو: "لا تصحب زيدًا ولا تَزُرْه ولا تكلمه إنْ ظلمني"، واختلفوا في الاستثناء) (¬4). انتهى
¬__________
(¬1) المحصول (3/ 62).
(¬2) كذا في (ش)، لكن في (ص، ق): أيضًا. وفي (س، ت، ض): هنا.
(¬3) تسهيل الفوائد (ص 238).
(¬4) شرح التسهيل (2/ 295).
أو التزمه سليمًا عن الفرق لم يقدح ذلك في غرضه، ولا يحصل به غرض المستدِل) (¬1).
الرابع:
قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب "الفروق": (الفرق قسمان، أحدهما: بظاهر كتاب أو سُّنة، فيستغنى حينئذٍ عن المعنى، فلو كشف عن ذلك وفرق بالمعنى، كان زيادة بيان، وإنْ لم يوجد ذلك فلا يحتاج إليه. والثاني: الفرق بالمعنى إما فرق فصل أو فرق جمع) (¬2).
ثم مثَّل الفرق بالنَّص بالفرق بين تحريم المخابرة وجواز المساقاة بما قال الشافعي من أنَّ الفرق بينهما أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن المخابرة وجوز المساقاة لأهل خيبر.
قال: (ويمكن أن الإجارة أغنت عن المخابرة، وأما إجارة الأرض بما تقتضيه المساقاة فغير جائزة؛ فلهذا دعت الضرورة إلى المساقاة) (¬3). انتهى
فعُلِم منه أنه يجوز الفرق بالنص وأنَّ الشافعي - رضي الله عنه - فرق به. والله تعالى أعلم.
ص:
870 - ثُمَّ "فَسَادُ الْوَضْعِ": أَنْ يُبَيَّنَا ... أَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ مِمَّا أُتْقِنَا
871 - بِوَضْعِهِ بِهَيْئةٍ صَالِحَةِ ... لِأَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْمُثْبَتِ
872 - كَالْأَخْذِ لِلتَّخْفِيفِ مِنْ تَغْلِيظِ ... وَوَاسعٍ مِنْ ضَيِّقٍ حَفِيظِ
873 - وَمنْهُ مَا الْجَامِعُ فِيهِ اعْتُبِرَا ... بِنَصٍّ أوْ إجْمَاعٍ أنْ قَدْ أَثَّرَا
¬__________
(¬1) نهاية الوصول (8/ 3484).
(¬2) الجمع والفرق (1/ 42)، الناشر: دار الجيل.
(¬3) الجمع والفرق (1/ 42)، الناشر: دار الجيل.