كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

أولها: مَعْرفة ذلك العِلم، أَيْ: تَصَوُّره بِوَجْهٍ؛ لأنَّ طَلَب الإنسان ما لا يَعْرفه - مُحالٌ ببديهة العقل. وذلك الوجه الذي يَعرفه به هو المعنى الذي يحيط بِكَثرته. ثُم يَطْلبه مِن جهة تفصيله. فإنْ عَرفه مِن جهة التفصيل، كان طَلَبه له مُحالًا؛ لأنه تحصيل الحاصل؛ فلذلك بَرْهَنْتُ على الأمْرَيْن مَعًا.
وقولي: (وَمَنْ يُحَصِّلْ حاصِلًا) أَيْ: مَن يُرِيد تحصيل الحاصل، فهو مطلول، أَيْ: مُهْدَرٌ، لا التفات له؛ لأنه طالبُ مُحال، مِن قولهم: (طُلَّ دَمُه) بالبناء للمفعول، أَيْ: هُدِرَ.
ثُم الجهة التي يَعرفه بها إنْ كانت ذاتية، فالمُنْبِئُ عنها "الحدُّ"، وإلَّا فَـ "الرسمُ" كما سيأتي بيانُ ذلك.
وثانيها: أنْ يَعْرف غاية ذلك العِلم؛ لئلَّا يَكون سَعيه عَبَثًا؛ لأنه تضييع للعُمر فيما لَمْ يعْلَم له فائدة، وهو معنى قولي: (نَفْيًا لِمَا في عَبَثٍ يُعَدُّ) بالنصب على المفعول لأجله. و"في عَبَثٍ" متعلِّق بِـ "يُعَد".
وثالثها: أنْ يَعْرِف ما يُسْتَمَد مِنه ذلك العِلم؛ لأنه إذَا رام تحقيقه والاطِّلاع على أصله الذي نشأ منه، فلا بُدَّ له مِن معرفة ما استُمِد منه؛ ليرجع في تلك الجزئية إلى مَحَلِّها منه.
واعْلَم أنَّ أصل هذه القاعدة أنَّ كُلَّ معدوم يُوجَد يتوقف وجوده على أربع عِلَل:
العِلة الصُّورية: وهي التي تقُوم بها صُورتُه، وتتميز عن غيرها، فَتَصَوُّر "المُرَكَّب" مُتَوَقِّف عَلَى تَصَوُّر أركانه وانتظامها على الوجه المقصود. وتَصَوُّر "البسيط" باعتبار تميُّزه عن غيره مما شاركه - يَكون بِتَصَوُّر مُتَعَلّقِه معه؛ فيصير كالمُرَكَّب؛ ولهذا أَدْخَله بعضُهم في المُركَّب تقديرًا مِن هذه الحيثية، وجعله يُعَرَّف بالحدِّ الحقيقي الذي هو بالذاتيات.
والعِلة الغائية: وهي الباعث على إيجاده، وهي الأُولَى في الفِكر مُقَدَّمة على سائر العِلَل وإنْ كانت آخِرًا في الوجود الخارجي؛ ولهذا يقال: "مَبْدَأُ العِلْمِ مُنْتَهَى العمل"، ويقال أيضًا:
رُوي أن [ابن عمر] (¬1) زُكِّي عنده رجُل، فسأل المزكِّي عن أحواله، فذكر له ما لا يُكتفَى به.
الرابع: أنه يكفي الإطلاق في كل منهما؛ لأنَّ الجارح والمعدِّل إن لم يكونا بصيرين بالأسباب، لم يَصْلُحَا لذلك، فإن كانا بصيرين بها فلا معنى لذكرهما إياها.
وهذا ما نَص عليه القاضي أبو بكر في "التقريب"، وكذا نقله عنه الخطيب في "الكفاية" والغزالي في "المستصفى" والمازري في "شرح البرهان" والقرطبي في "الوصول" والإمام الرازي والآمدي وابن الحاجب، وابن القشيري ورَدَّ على الإمام ما نقله في"البرهان" عنه.
وأما قول إمام الحرمين والإمام الرازي: (يكفي الإطلاق من العالم بأسبابهما دُون غيره) (¬2) فلَم يخرج عن القاضي وهو الاكتفاء بالإطلاق فيهما؛ لأنَّ غير العارف لا يَصلح لتعديل ولا لتجريح.
قال القاضي تاج الدين السبكي: (والمختار عندي في الشهادة التفصيل بين الجرح والتعديل كما ذهب إليه الشافعي، وفي الرواية الاكتفاء بالإطلاق في الجرح والتعديل معًا إذا عُرف مذهب الجارح فيما يجرح به) (¬3).
¬__________
(¬1) كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 352): (وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - زُكِّيَ عِنْدَهُ رَجُلٌ. .). وفي (الكفاية، ص 83) للخطيب البغدادي: (شَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لَهُ: لَسْتُ أَعْرِفُكَ، وَلَا يَضُرُّكَ أَلاَّ أَعْرِفَكَ، ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أنا أَعْرِفُهُ. قَالَ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: بِالْعَدَالَةِ وَالْفَضْلِ. قَالَ: فَهُوَ جَارُكَ الْأَدْنَى الَّذِي تَعْرِفُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَمُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمُعَامِلُكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ بِهِما يُسْتَدَلُّ عَلَى الْوَرَعِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَسْتَ تَعْرِفُهُ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ).
(¬2) البرهان في أصول الفقه (1/ 237)، المحصول (4/ 410).
(¬3) رفع الحاجب (2/ 391).
تُبْنَى على دقائق النحو، والله أعلم.
ص:
490 - وَبَعَّضَتْ، وَمنْهُ: "بَلْ" لِلْعَطْفِ ... كَذَا لِإضْرَابٍ بِبُطْلٍ تُلْفِي
491 - أَوِ انْتِقَالٍ، "ثُمَّ" لِلتَّشْرِيكِ ... بِمُهْلَةٍ في ذَلِكَ [الشَّرِيكِ] (¬1)
الشرح:
قولي: (وَبَعَّضَتْ) هو من تمام معاني "الباء" كما سبق، والمعنى أن "الباء" أيضًا أفادت البعضية، وقد مضى شرح ذلك.
وقولي: (وَمنْهُ: "بَلْ") إلى آخِره -الضمير للمذكور أولًا في الترجمة وهو الأدوات المحتاج إليها في الاستدلال، فالضمير [يذكر] (¬2) باعتبار عَوْده لما ذكر.
و"بل" من حروف العطف، تشرك ما بعدها لما قبلها في الإعراب إذا كانا مفردين، سواء في الإثبات وما في حُكمه، أو في النفي وما في حكمه، إلا أنها في القسم الأول [تسلب الحكم قطعًا] (¬3) عما قبلها وتجعله لما بعدها، أي: تُصَيِّر الأول كالمسكوت عنه وتثبت الحكم للثاني. نحو: (جاء زيد بل عمرو)، و: (أَكْرِم زيدًا بل عمرًا).
واختُلف في القسم الثاني، نحو: (ما قام زيد، بل عمرو)، و: (لا تضرب زيدًا، بل عمرًا).
فقال الجمهور: إنها لتقرير ما قبلها وجعل ضده لما بعدها، فتقرر نفي القيام أو
¬__________
(¬1) في (ن 2، ن 3، ن 4، ن 5): التشريك.
(¬2) في (ص): مذكر.
(¬3) في (ص): قطعا تسلب الحكم. وفي (ش): تسلب قطعا الحكم.
واعلم أن الخلاف في المسألة قديم قبل صاحب "المحصول"، فقد حكى الصيرفي في كتاب "الدلائل" قولين عن أهل اللغة:
أحدهما: أنه يرجع إلى ما يليه حتى يقوم دليل على إرادة الكل.
والثاني: أنه يعود للكل؛ لأنه وقع في آخِر الكلام؛ فلَم يكن آخر المعطوفات مختصًّا به دون غيره.
وحكى الغزالي عن الأشعرية عدم عوده للجميع، وحكى ابن العارض المعتزلي عن علمائهم عَوْدَه للجميع ولو قيل في الاستثناء: يعود للأخير. ثم نقل عن بعض الأدباء ما سبق حكاية الإمام في "المحصول".
وأما قوله في "المحصول": (إنَّ الشافعي وأبا حنفية متوافقان) فمردود بحكاية الماوردي وابن كج عن أبي حنيفة أنه كالاستثناء في اختصاصه بالأخير.
ثم قال الماوردي: (إن ذلك غلط؛ لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] إلى قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}، فإنه عائد للجميع، لا الرقبة فقط) (¬1).
وأما النقل عن بعض الأدباء أنه "إنْ تَقدم، اختص بما يليه" فبناء على عدم العَوْد للكل. وكذا قال الهندي: إنه منقول عن كل مَن خصصه بجملة واحدة.
لكن قد صرح الصيرفي بأنه يعود للكل، سواء تَقدم أو تأخر، وكذا إلْكِيَا الطبري.
وقال أبو الحسن السهيلي -من أصحابنا- في كتاب "أدب الجدل": إنه مذهب الشافعي. ثم حكى عن بعضهم أن المتقدم يعود للجميع، والمتأخِّر للأخير فقط.
وهو تفصيل غريب يكون قولًا خامسًا في المسألة.
¬__________
(¬1) انظر: الحاوي الكبير (16/ 71).
الشرح:
أي: ومن القوادح "فساد الوضع"، أي: بيان أن الدليل موضوع على غير هيئته التي يجب اعتبارها في ترتيب الحكم عليه واستنتاجه منه، وهذا ليس خاصًّا بالعلة، بل ولا بالقياس؛ فلذلك قلتُ: (أَنْ يُبَيّنا أَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ مِمَّا أُتْقِنَا) إلى آخره. أي: أُحْكِمَ. يقال: أتقن الشيء إتقانًا، أي: أَحْكَمَه. ورجل تِقْن -بكسر التاء وإسكان القاف- أي: حاذق. حتى يجري مثل ذلك في القياس المنطقي كما أشرنا إليه في المقدمة.
والقصد هنا ما يتعلق بالقياس.
وقولي: (كَالْأَخْذِ) إلى آخِره - مثالان لذلك:
أحدهما: أنْ يؤخَذ التخفيف مِن محل التغليظ، كقول الحنفي: القتل العمد جناية عظيمة؛ فلا كفارة فيها، كسائر الكبائر مِن سُكْر وفِرار من الزحف ونحو ذلك.
فيقول المعترِض: كَوْنه جناية عظيمة يناسب أنْ تجب الكفارة تغليظًا، لا تخفيفًا بإسقاطها.
ثانيهما: أنْ يؤخذ التوسيع مِن التضييق، كقولهم في أنَّ الزكاة على التراخي: مال وجب لدفع الحاجة؛ فكان على التراخي، كالدية على العاقلة.
فإنَّ كَوْنه لدفع الحاجة يناسب أنه على الفور، لا على التراخي.
ونحو ذلك أن يؤخذ الإثبات مما يقتضي النفي، كأنْ يقال في المعاطاة في المحقرات: بيع لم يوجد فيه سوى الرضا؛ فوجب أن لا ينعقد، كما في غير المحقرات.
فيُقال: حصول الرضا يناسب الانعقاد لا نَفْي الانعقاد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن

الصفحة 116