كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

هي عِلة في الذهن، معلولة في الخارج.
والعِلَّة المادية: هي التي منها [تُستمد] (¬1) المُرَكَّباتُ أو ما في حُكمها كما تَقَدَّم، كالعلوم المتميزة بمتعلقاتها بِدُون ملاحظة الهيئة التي هي عليها؛ فإنَّ تلك العلة الصورية كما سبق.
والعِلة الفاعلية: هي المؤثِّرة في إيجاد ذلك وإخراجه مِن العَدَم للوجود، ولكن هذه عند أهل السُّنة لا حقيقة لها في شيء مِن العالَم؛ لأنَّ الوجود كُله بإرادة الله تعالى وتأثيره فيه بالقدرة والإرادة، وليس لشيء عندهم تأثير في وجود شيء بالذات.
وقولي: (جامع) مرفوع؛ لأنه صفة لِـ "مَعْنًى"، و"مَعْنًى" مبتدأ وخبره محذوف، أَيْ: موجود، والجملة في محل خفض بإضافة "حَيْثُ"؛ لأنها [لا] (¬2) تضاف لِمُفْرَد إلَّا شذوذًا، والله أعلم.
ص:
15 - فَلِأُصُولِ الْفِقْهِ مَعْنَيَانِ ... إضَافَةٌ وَلَقَبٌ، فالثَّاني
16 - مَقْصُودُنَا: عِلْمٌ بِطُرْقِ الْفِقْهِ ... مِنْ حَيْثُ إجْمَالٌ لها بِوَجْهِ
17 - وَكَيْفَ يُسْتَفَادُ مِنها حُكْمُهُ ... وَحَالِ مُسْتَفِيدِها، ذَا رَسْمُهُ
الشرح:
لَمَّا [ثَبَتَ] (¬3) أنَّ كُلَّ طالب عِلم لا بُدَّ له مِن مَعرفة أمور ثلاثة، شرعتُ في بيانها فيما أنا بِصدده، وهو عِلم أصول الفقه، فلا بُدَّ مِن معرفته مِن حيث المعنى الجامع لجزئياته كلها،
¬__________
(¬1) في (ش): يستمد.
(¬2) ليس في (ز).
(¬3) كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ز، ر، ت): بينت.
قلت: وفيما اختاره نَظَر مِن وجوه:
أحدها: مخالفة إمامه الشافعي والجمهور.
والثاني: أن الجارح إذا عُرف مذهبه فيما يجرح به، نزل ذلك منزلة ذِكره.
الثالث: أن الذي يظهر في مستنده في اختيار ذلك ما قال ابن الصلاح: (إنَّ لقائلٍ أنْ يقول: إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورَدِّ حديثهم على الكُتب التي صنفها أهل الحديث في الجرح، وقَلَّ ما يتعرضون فيها للسبب، بل يقتصرون فيها على مجرد قولهم: "فلان ضعيف" و"فلان ليس بشيء" ونحو ذلك، فاشتراط بيان السبب في جرح الرواة يفضي إلى تعطيل ذلك وسَدِّ باب الجرح في الأغلب الأكثر) (¬1).
قال: (وجوابه أنَّ ذلك وإنْ لم يعتمد في إثبات الجرح فالحكم به معتمد في التوقف عن قبول حديث مَن قالوا فيه ذلك؛ بناءً على أنه أَوْجَد عندنا ريبةً قويةً يوجِب مثلها التوقف؛ ولهذا مَن زالت عنه هذه الريبة فبُحِث عن حاله فظهر ما يوجِب الثقة به، قَبِلْناه كمن احتج بكثير منهم صاحِبَا الصحيحين مع أنَّ فيهم مِثل هذا الجرح) (¬2). انتهى ملخصًا.
وهو معنى قول النووي في "شرح مسلم": إنَّ المعْنِيَّ بعدم قبول الجرح المطلَق في الراوي وجوب التوقف عن العمل بروايته إلى أن يبحث عن السبب.
وهو حسن يزول به عن الصحيحين الإشكال [قبل] (¬3) ذلك.
ويزول به إشكالٌ آخَر وهو أنَّ الجرح مقدَّم على التعديل، فكان على مقتضَى ذلك كل مَن جُرح بوجه لا يُقبل مطلقًا لاسيما وقد وقع بعض مَن دخل في الجرح والتعديل في كثير من
¬__________
(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 108).
(¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 108 - 109).
(¬3) في (ز): بمثل.
النهي لزيد وضده لعمرو.
وأجاز المبرد وعبد الوارث وتلميذه الجرجاني مع ذلك أن تكون ناقلة للحكم الأول لما بعدها كما في الإثبات وما في حُكمه.
فيحتمل عندهم في نحو: (ما قام زيد بل عمرو) أن يكون المراد: بل ما قام عمرو. وفي: (لا تضرب زيدًا بل عمرًا) أن يكون التقدير: بل لا تضرب عمرًا أيضًا. حتى لو قال: (ما له عَلَيَّ درهم بل درهمان) لا يلزمه شيء؛ إذ التقدير: بل ما له عَلَيَّ درهمان أيضًا. فيكون النفي للأمرين.
بل قال القواس في "شرح ألفية ابن معطي": (إنهم أوجبوا تقدير حرف النفي بعدها، فتتحقق المطابقة في الإضراب عن منفي إلى منفي كما يتحقق من موجب إلى موجب).
ثم قال: (ويجب أن يُقال: إن كان المعطوف غلطًا، قُدِّر حرف النفي؛ ليشتركا في نفي الفعل عنهما، وإن لم يكن غلطًا فلا؛ لأن الفعل ثابت له، فلا ينفى عنه) (¬1). انتهى
نعم، ضُعِّفَ هذا المذهب من الأصل بما في "إيضاح الفارسي" أنه لا يجوز في "ما زيد خارجًا بل ذاهب" إلا الرفع؛ لأن الخبر موجب، و"ما" الحجازية لا تعمل في الخبر إلا منفيًّا، فلو قُدِّر النفي، لجاز النصب، فالعرب إذا [قرنت] (¬2) في ذلك لزم تفسير أحد المعنيين بالآخَر، فإذا أرادوا نفي الفعل، صرحوا بالنفي وشبهه، فيقولون: ما قام زيد بل ما قام عمرو، و: لا تضرب زيدًا بل لا تضرب عمرًا.
أما إذا وقع بعد "بل" جملة نحو: "ما قام زيد بل عمرو قائم" فلا تكون حينئذٍ عاطفة عند الجمهور، بل حرف ابتداء يفيد الإضراب.
¬__________
(¬1) شرح ألفية ابن معطي (1/ 786)، الناشر: مكتبة الخريجي، تحقيق: علي موسى الشوملي.
(¬2) في (ص): فرقت.
وأما المسألة الثالثة:
وهي أنه هل يخرج بالشرط الأكثر ويبقى الأقل؟
قال في "المحصول": (واتفقوا على أنه يحسُن التقييد بِشرط أنْ يكون الخارج [منه] (¬1) أكثر من الباقي وإنِ اختلفوا فيه في الاستثناء) (¬2). انتهى
فلو قال: (أكرِم بني زيد إنْ كانوا علماء) وكان الجهال أكثر، جاز. بل ولو كان الكل جُهالًا، [يخرج] (¬3) الكل بالشرط.
لكن قال الصفي الهندي: (إنَّ إبقاء شيء وإنْ قَلَّ [يجب] (¬4) تنزله على ما عُلِم أنه كذلك. وأما ما يُجهل الحال فيه فإنه يجوز أن يُقيد ولو بشرط لا يُبقِي مِن مدلولاته شيئًا، كقولك: "أكرِم مَن يدخل الدار إنْ أكرمك" وإنِ اتفق أنَّ أحدًا منهم لم يكرمه) (¬5).
تنبيه:
حكاية الخلاف في الباقي بعد الاستثناء وحكاية الوفاق في الباقي بعد الشرط ما محله مع ما سبق في الباقي بعد التخصيص و [ترجيح] (¬6) أنه لا بُدَّ مِن جمع يَقْرُب مِن مدلول العام؟
والجواب: أنَّ ذاك في مطلق التخصيص ولو بمنفصل، وهنا في استثناء وشرط ولو لم يكونا تخصيصًا لعامٍّ سبقهما، فبيْن الموضعين عموم وخصوص مِن وَجْه، ولكل منهما مدْرَك
¬__________
(¬1) في (ص، ق): فيه.
(¬2) المحصول (3/ 62).
(¬3) في (ص، ق): لا يخرج.
(¬4) في (س، ت، ض): ثم.
(¬5) نهاية الوصول (4/ 1589 - 1590).
(¬6) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): يرجح.
تراض" (¬1).
ومن "فساد الوضع" نوع آخَر وهو ما اقتصر عليه ابن الحاجب، وهو كون الجامع ثبت اعتباره بنَص أو إجماع في نقيض الحكم، كقول الحنفي في تنجيس سؤر السباع: سبع ذو ناب؛ فكان سؤره نجسًا، كالكلب.
فيقول المعترِض: علقت على العلة نقيض مقتضاها؛ لأنَّ كَوْنه سبعًا عِلة للطهارة؛ بدليل: أنه - صلى الله عليه وسلم - دُعِي إلى دار قوم، فأجاب دُون دار آخَرين، فقال: "إن في دارهم كلبًا". فقيل له: وفي دار الذين أجبتهم هرة. فقال: "الهرة سبع" (¬2).
فكان نَصًّا على أنَّ كونه سبعًا عِلةٌ للطهارة، فكيف يعلل به النجاسة؟ !
كذا مثَّل به الشيخ أبو إسحاق في "الملخص"، ومثَّله ابن الحاجب على وَفْق مذهب المالكية في مسح الرأس في الوضوء ثلاثًا، فقال: (مسح؛ فيُسَن فيه التكرار، كالاستطابة).
أي: كالاستنجاء بالحجر؛ لأنَّ التثليث فيه عندهم سُنة، وهو وَجْه عندنا.
قال: (فيرد أنَّ المسح معتبر في كراهة التكرار على الخف).
¬__________
(¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 2185)، صحيح ابن حبان (4967) , وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1283).
(¬2) مسند أحمد (8324) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِي دَارَ قَوْمٍ مِنَ الْأنصَارِ وَدُونَهمْ دَارٌ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، سُبْحَانَ الله! تَأْتِي دَارَ فُلَانٍ وَلَا تَأْتِي دَارَنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَأَنَّ فِي دَارِكُمْ كَلْبًا". قَالُوا: فَإِنَّ فِي دَارِهِمْ سِنَّوْرًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ السِّنَوْرَ سَبعٌ". وفيه أيضًا (9706) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْهِرُّ سَبعٌ".
وضعفه الشيخ الألباني أثناء كلامه في (سلسلة الأحاديث الضعيفة، حديث رقم: 1512)؛ فاللفظان من طريق عيسى بن المسيب، وقد ضَعَّفه جماعة من أئمة الحديث.

الصفحة 117