ومعرفة غايته، ومعرفة استمداده.
فالأول: لَفْظ "أُصُول الفقه" مُرَكَّبٌ إضافيٌّ في الأصل، ثُم صار بكثرة الاستعمال في عُرْف أهل الأصول والفقه له معنًى آخَر غَيْر الأول، وصار عَلَمًا عليه بالغَلَبة، لَقَبًا مُشْعِرًا بِرِفعته؛ فينبغي أنْ يُعَرَّفَ مِن حيث معناه الإضافي ومِن حيث معناهُ اللَّقَبيُّ، وهو مَعْنَى قولي في النَّظْم: (إضافةٌ ولَقَبٌ)، أَيْ: ذو إضافةٍ، كَـ "رَجُل عَدْل" أَيْ: ذُو عدل، والمراد: مَعْنًى إضافة ومعنى لقبٍ، فهو على حَذْف مُضَاف دَلَّ عليه مَعْنيان، أَيْ: المعنى الذي دَلَّ عليه بالإضافة، والمعنى الذي دَلَّ عليه باللقب.
فأمَّا المعنى اللقبي وبدأتُ به لأنه المقصود وإنْ كان مَعرفة المُفْرد ينبغي أنْ تَكون قَبْل المُرَكَّب، بل أقول: إنَّ ذلك فيما تركيبه ملحوظ، أمَّا ما صار كالمفرد فلَا.
واعْلَم أنَّ العِلْم لَمَّا كان بسيطًا كان تَنَوُّعه وانقسامه إنما هو بِحَسب مُتَعَلَّقه، فجهة معلومات كل عِلْم (التي تجمعُ كثرتَه وتضبطها) لا تَكون ذاتية كُلها، بل مع لازِمٍ وهو متعلَّقها المُمَيِّزُ لها، إلَّا بالتأويل الذي حكيناه عن بعضهم قريبًا، فالمُعَرف له دائمًا "الرسم"، إلَّا على هذا القول؛ فلذلك قلتُ بَعْد فراغ تعريفه: (ذَا رَسْمه)، ولَمْ أَقُلْ: (ذَا حَدُّه).
فَرَسْم "أُصول الفقه" مِن حيث اللقب: عِلْم طُرُق الفقه مِن حيث الإجمال، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد.
فَلفْظ "عِلْم" كالجنس، يشمل سائر العلوم، والمراد به هنا ما هو أَعَم مِن اليقين والظن؛ لأنَّ بعض مسائل أصول الفقه ظنيَّة، خِلَافًا لِمَن زَعَم أنَّ الكل قَطْعِي، ولِمَن قال: إنَّ الظني فيه يَرْجع إلى القَطْع.
وما بَعْده خاصَّةٌ يخرج به ما سواه، فيخرج عِلْم نَفْس الفقه، وطُرُق غَيْر الفقه. والمراد بِـ "الطُّرُق" المُوَصِّلات إليه، وهي أدلته. وإنْ خُصَّت الأدلة بالقَطْع وجُعِل ما يفيد الظنَّ
الأئمة الكبار وما سَلِم إلا القليل. فبهذا التوقف لا يلتفت لتجريح أحدٍ أحدًا منهم مع إمامته وجلالته وعدم احتياجه كما سبق لمعدِّل. فافْهَم ذلك، واجعله عقيدة لك في الأئمة؛ تَسْلَم، والله أعلم.
ص:
308 - وَقُدِّمَ الْجَرْحُ عَلَى التَّعْدِيلِ ... مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَخَّرَ التَّعْوِيلِ
الشرح:
أي: هذا كله إذا لم يتعارض الجرح والتعديل، فأمَّا إذا تعارضا سواء أكان الجرح مبَيَّن السبب أو مطلقًا وقلنا بقبوله:
فالصحيح من المذاهب في المسألة أن الجرح مقدَّم مطلقًا، سواء كَثُر الجارح أو المعدِّل أو استويَا.
وبه جزم الماوردي والروياني وابن القشيري وقال: نقل القاضي فيه الإجماع.
ونقله الخطيب والباجي عن جمهور العلماء، وقال الإمام الرازي والآمدي وابن الصلاح: إنه الصحيح؛ لأنَّ مع الجارح زيادة عِلم لم يَطَّلِع عليها المعدِّل، فهو موافِقٌ له على أنَّ ظاهره كذلك ومُخْبِرٌ بما خَفي عن المعدِّل (¬1).
قال ابن دقيق العيد: هذا إنما يصح على اعتقاد أنَّ الجرح لا يُقبَل إلا مفسرًا. أي: فإنْ قبلناه مجملًا فالأقوى حينئذ أنْ يُطلَب الترجيح؛ لأنَّ قول كل مِن الجارح والمعدِّل ينفي ما يقوله الآخَر.
قال: (وبشرط آخَر، وهو أنْ يُبْنَى الجرح على أمرٍ مجزوم به، لا بطريق اجتهادي، كما
¬__________
(¬1) يعني: الجارِح يوافق المعَدَّل على أنَّ ظاهر المعَدَّل العدالة، ثم يخبِر الجارِحُ بما خَفي عن المعَدِّل.
[ثم] (¬1) هو ضربان:
إضراب إبطال للحكم السابق، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] ففي ذلك كله رد على ابن العلج في "البسيط" وتبعه ابن مالك في "شرح الكافية" أنَّ هذا القسم لم يقع في القرآن، بل قال في "البسيط": ولا في كلام فصيح.
وإنما يقع الثاني، وهو إضراب الانتقال من حُكم إلى حكم من غير إبطال للأول، كقوله تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: 62، 63]، وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66]. لم تبطل شيئًا مما سبق، وإنما فيه انتقال من خبر عنهم إلى خبر آخَر. فالحاصل أن الإضراب الانتقالي قَطعْ للخبر لا للمخبَر عنه.
ثم ظاهر كلام ابن مالك أن هذه عاطفة أيضًا لكن جملة على جملة، وصرح به ولده في "شرح الخلاصة".
وأيَّده بعضهم بأن اختلافهما في النفي والإثبات لا ينافي العطف، كما تقول: "ما قام زيد ولم يخرج عمرو"، و: "ما قام بكر وخرج خالد".
لكن الفرق بين هذا وبين ما نحن فيه أن "بل" لَمَّا كانت للإضراب صار ما قبلها كأنه لم يذكر، وكأنه لا شيء يعطف عليه.
نعم، كان مقتضى هذا أنَّ "حتى" عاطفة إذا وقع بعدها جملة، إلا أنها لَمَّا لم يكن أصلها العطف بل الغاية والانتهاء -كَـ "إلى"- ووقع بعدها الجُمَل، لم يتعذر بقاؤها على أصلها، ولَمَّا وقع بعدها المفرد مع عدم صلاحيتها للغاية، جُعلت حرف عطف؛ ولهذا يُدَّعَى فيها
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ، ت، ق): ثم.
يخصه يَظهر مِن أدلة ذلك. والله أعلم.
ص:
645 - وَالثَّالِثُ: التَّقْيِيدُ بِالْوَصْفِ إذَا ... مَفْهُومُهُ كمَا مَضَى لَنْ يُنْبَذَا
الشرح:
الثالث من المخصصات المتصلة: "الوصف"، والمراد به ما أَشعر بمعنى يتصف به أفراد العام، سواء أكان نعتًا أو عطف بيان أو حالًا، وسواء اكان ذلك مفردًا أو جملة أو [شبهها] (¬1) وهو الظرف والجار والمجرور.
نحو: (وقفتُ على أولادي الفقراء) أو: (أبوي بكر) إذا كان فيهم مَن يُسَمى أبا بكر ومَن لا يسمى، أو: (أولادي سالكي الطرق الحميدة).
ونحو: (على أولادي يقرؤون القرآن) أو: (وَهُم علماء) أو: (على بناتي عند عزوبتهن) أو: (عند فقرهن).
سواء كان دالًّا على معنى في العموم باشتقاق مِن اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة و"أفعل" التفضيل أو بجمود مؤولًا بمشتق نحو: أولادي المكيين، أو: ذوي العلم، أو نحو ذلك.
وسواء أكان ذلك الوصف نفسه قائمًا بهم أو غير قائم بهم لكن بسبب قائم بهم، كَـ: (وقفتُ على أولادي القرشية أُمهم)، أو غير ذلك.
وقد يفرض ذلك في تمييز ومفعول معه، فيتقيد العموم به.
¬__________
(¬1) كذا في (ص)، لكن في سائر النسخ: شبههما.
أي: فهو نقيض الحكم؛ إذْ لو كان المسح عليه لاستحباب التكرار، لَمَا علل به كراهة التكرار في الخف.
وفيه نظر؛ لأنَّ [علة] (¬1) كراهة التكرار في الخف إنما هي الإتلاف، لا المسح.
وأيضًا: فإنما كَوْنه عِلة لضد الحكم بالمناسبة، لا بالنَّص ولا بالإجماع.
نعم، لم يمثل لصورة ثبوت الضد بالإجماع؛ ولذلك جعل الشيخ أبو إسحاق بدل الإجماع كَوْن الأصول تشهد لضد الحكم، وكذا إمام الحرمين كما مثَّلنا به في الكفارة في العمد، فرجع الكل إلى أمرين: أن يدل نَص على ترتيب ضد الحكم على ذلك الوصف، أو تدل الأصول بالمناسبة عليه.
تنبيه: جواب هذا الاعتراض بتقرير المُدَّعَى، كأنْ يُقَرر في مثال التغليظ أنَّ للوصف جهتين، يناسب بإحداهما التغليظ وبالأخرى التخفيف، أو يبين أن الوصف ليس مُشْعرًا بنقيض الحكم المطلوب، أو يُسَلِّم ذلك ولكن يبين وجود مانع في أصل المعترِض. والله أعلم.
ص:
874 - أَيْ في نَقِيضِ الْحُكْمِ، أَمَّا الْمُسْمَى ... "فَسَادَ الِاعْتِبَارِ" فَهْوَ عَمَّا
875 - مَا قَبْلَهُ؛ لِأنهُ مُخَالَفَهْ ... لِلنَّصِّ أَوْ إجْمَاعِهِمْ إذْ خَالَفَهْ
الشرح: قولي: (أَيْ في نَقِيضِ الْحُكْمِ) متعلق بما قبله، أي: إنَّ [النص] (¬2) والإجماع أثَّر في نقيض الحكم، وقد سبق تقرير ذلك.
¬__________
(¬1) كذا في (س، ت)، وفي سائر النسخ: علية.
(¬2) في (ت): للنص.