كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

أمارة، فهو داخِل في الطُّرُق.
وإنما أَتَيْتُ بالجَمْع في قولي: (طُرُق) إشارة إلى التنوع، كما أضيف العِلم إلى ثلاثة أشياء؛ لإفادة أنَّ أُصول الفقه أنواع يَصْدُق على كُل نوع منه أنه "أصول الفقه"؛ لأنَّ طُرُق الفقه إذَا كانت أنواعًا وكُل نوع منها أصول فقهٍ، كان كُل مِن الأمور الثلاثة كذلك أيضًا، فَكُل مِن عِلم الطُّرُق وعِلم الاستفادة وعِلم حال المستفيد - تحته أنواع، وانقسام أصول الفقه إلى كُل مِن أنواعه - مِن قِسمة الكُلي إلى جزئياته، لا مِن قِسمة الكُل إلى أجزائه؛ ولهذا لَمْ يَصِر عِلْمًا بالغَلبَة إلَّا جَمْعًا؛ ملاحظةً لهذا المعنى، فتأَمَّله؛ فإنه نفيس.
وخرج بِكَوْنه "مِن حيث الإجمال" عِلمُ الأدلة في نَفْس الفقه؛ لأنه "مِن حيث التفصيل" كما سيأتي بيانه في تعريف "الفقه".
وقولي: (وكيفية الاستفادة) أَيْ: استنتاج الحُكْم مِن الدليل بالجهات التي تُفَصَّل في أقسام الألفاظ وفي تَعَارُض الأدلة وأشباه ذلك.
وقولي: (وحال المستفيد) [يشمل] (¬1) المستفيد مِن الأدلة وهو المجتهد، والمستفيد مِن المجتهد وهو المقلِّد لكن بدليل إجمالي كما سيأتي.
وعُلِمَ مِن هنا وَجْه مُغايرة تفسير "أصول الفقه" باعتبار اللقب وتفسيره باعتبار الإضافة بكَوْنها أدلَّةَ الفقه، ومدلولُ اللقبي عِلْمٌ متعلِّق بثلاثة أمور، وذاك نفسُ الأدلة بلا زيادة، فحكاية خِلَافٍ في أنَّ أصول الفقه هل هو الأدلة أو العِلم بالأدلة - لا حاصلَ له؛ لِعَدَم التوارُد على محَلٍّ واحدٍ.
وأَبْعَد مِنه مَن يجعلُ "أُصول الفقه" أدلَّته، ويجعل العِلمَ بها وبِطُرُق استفادتها ومستفيدها - مِن أوصاف الأُصولي، لا مِن نَفْس الأُصول (كما وقع في "جَمْع الجوامع" لابن
¬__________
(¬1) في (ش): بل.
اصطلح أهل الحديث في الاعتماد في الجرح على اعتبار حديث الراوي مع اعتبار حديث غيره والنظر إلى كثرة الموافَقة والمخالفة والتفرُّد والشذوذ). انتهى
وقولي: (مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَخَّرَ التَّعْوِيلِ) بيان أن ذلك إنمَّا هو حيث لم يكن التعديل مؤخرًا فيما عول عليه عن سبب الجرح، والمراد بذلك ما استثناه أصحابنا مِن تقديم الجرح أنه إذا جرحه بمعصية وقال المعدِّل: (عرفتُ ذلك ولكنه تاب منها) أيْ: مع مُضِي مدة الاستبراء حيث اعتُبِرت، فإنَّ التعديل حينئذ مقدَّم؛ لأنَّ فيه زيادة [عِلم] (¬1).
القول الثاني: أنَّ التعديل مقدَّم أبدًا؛ لأنَّ الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحًا، والمعدِّل لا يُعدِّل حتى يتحقق بطريقٍ سلامته من كل جارح. وهذا حكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف، لكن قضية تعليله بما سبق تخصيص الخلاف بالجرح غير المفسَّر بناءً على قبوله.
الثالث: يُقدَّم الأكثر من الجارح والمعدِّل. حكاه في "المحصول"؛ لأنَّ الكثرة لها تأثير في القوة.
ورَدَّ ذلك الخطيب بأنَّ المعدِّلين وإنْ كثروا فليسوا مخبرين بعدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك كانت شهادة نَفْي، وهي باطلة.
الرابع: تَعارُض الأمرين، فلا يُقدَّم أحدهما إلا بمرجِّح. حكاه ابن الحاجب.
واعْلم أنَّ القاضي في "التقريب" جعل موضع الخلاف فيما إذا كان عدد المعدِّلين أكثر. فإنِ استويا، قُدِّم الجرحُ إجماعًا. وكذا قال الخطيب في "الكفاية" وابن القطان وأبو الوليد الباجي.
اعتُرِض على حكايتهم ذلك بأن ابن القشيري قد نصب الخلاف فيما إذا استوى عدد
¬__________
(¬1) في (ز): على القبول.
-مع كونها عاطفة- معنى الغاية.
إذا علمت ذلك، علمت أنَّ بين الأمرين المذكورين في "بل" -وهُما العطف والإضراب- عمومًا وخصوصًا من وجه؛ لأن الداخلة بين مفردين عاطفة، أَعَم أن تكون للإضراب وغيره، والإضراب أعم أن تكون عاطفة (وذلك في المفردات) أو غير عاطفة (وذلك في الجُمَل عَلَى غير رأْي ابن مالك وولده).
أما إذا قُلنا بذلك، فبينهما عموم وخصوص مطلق؛ لأن العطف أعم أن يكون بإضراب (كما في الجمل وفي نوع من المفرد) وبغير إضراب (كما في نوع من المفرد).
فقولي: (كَذَا لِإضْرَابٍ) لم أُرِد به تغايُر المعنيين من كل وجه، بل أردت ما سبق.
وقولي: (ثُمَّ) إلى آخِره -إشارة إلى الكلام على "ثُم"، وهي للتشريك بين ما قَبلها وما بعدها في الحكم لكن مع التراخي والمهلة، نحو: "قام زيد ثم عمرو".
فأما كونها للتشريك فالمخالف فيه الكوفيون، جوَّزوا أن تقع زائدة، كقوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118]، فليست عاطفة البتة حتى يكون فيها تشريك.
وأما الترتيب فالمخالف فيه الفراء فيما حكاه عنه السيرافي، وعزاه وغيره للأخفش، محتجًّا بقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6]، ومعلوم أن هذا الجَعل كان قبل خَلْقنا. والجمهور تأوَّلوه على الترتيب الإخباري.
وفيها مذهب ثالث: أنها للترتيب في المفردات دون الجُمل، كقوله تعالى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]، إذ شهادة الله مُقدَّمة على المرجع. قاله ابن الدهان، وجرى عليه ابن السمعاني في "القواطع".
والصحيح أنها للترتيب مطلقًا، لكنه في المفردات معنوي وفي الجُمل ذِكْرِيّ، نحو:
وسنذكر من ذلك أمثلة فيما تعقب منه جُملًا: هل يعود [للأخير] (¬1)؟ أو للكل؟ وما يمثَّل به له من الفروع الفقهية.
وقولي: (إذَا مَفْهُومُهُ كَمَا مَضَى لَنْ يُنْبَذَا) أي: الشرط في الوصف المخصص أن يكون له مفهوم معمول به لن يُطرَح، ويخرج بذلك صور:
منها: أن يكون الوصف خرج مَخْرَج الغالب، فَطُرح مفهومه كما سبق بيانه في باب المفاهيم.
ومنها: أن يساق الوصف لمدح أو ذم أو ترحُّم أو توكيد أو تفصيل كما هو موضح في العربية، فليس شيء من ذلك مخصصًا للعموم.
وإنما ينحصر المخصص في [المَسُوق لتخصيص] (¬2) أو لإيضاح، لأنه إنْ كان:
- لِمعرفة، فللإيضاح، نحو: (أولادي العلماء) و: ([الصلاة] (¬3) الوسطى)، ويُسمى عند البيانيين "الصفة المفارقة".
- أو لِنكرة، فللتخصيص، كَـ: (أوصيت لكل رجُل فاضل في البلد بكذا).
نعم، في كل من الأمرين بحث.
أما الأول: فقال الزملكاني (تلميذ ابن الحاجب) في كتابه "البرهان": إن صفة المعَرف بلام الجنس إنما هي [للتخصيص] (¬4)؛ لأن الحقيقة الكُلية لو أريدت باسْم الجنس مِن حيث هي هي، كان الوصف لها نسخًا، فتَعَيَّن أن يكون مَعْنِيًّا بها خاص. وهذا معنى
¬__________
(¬1) كذا في (ض)، لكن في سائر النسخ: للآخر.
(¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (ش): المفرق ليخصص. وفي (ت، س، ض): التخصيص.
(¬3) في (ت، س، ض): الصف.
(¬4) في (ص، ق): بالتخصيص.
وقولي: (أَمَّا الْمُسْمَى) إلى أخِره فهو نوع آخَر مِن القوادح، وهو المسمى بِـ "فساد الاعتبار"، وهو كَوْن القياس مخالفًا للنص أو للإجماع، فإنَّ ذلك يدل على فساده كما سبق، سواء كان النص:
- نَص القرآن، كما يقال في التبييت: صوم مفروض؛ فلا يصح بِنية من النهار، كالقضاء. فيقال: هذا فاسد الاعتبار؛ لمخالفة قوله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} [الأحزاب: 35]، فإنه يدل على أنَّ كلَّ صائم يحصل له أجر عظيم، وذلك يَستلزم الصحة.
- أو كان النص سُنَّة، كما يقال: لا يصح السلم في الحيوان؛ لأنه عقد مشتمل على غرر، فلا يصح، كالسلم في المختلط. فيُقال: هذا فاسد الاعتبار؛ لمخالفة ما في السُّنة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في السلم (¬1).
أما مخالفة الإجماع فكقول الحنفي: لا يجوز للرجل أن يُغسِّل امرأته؛ لأنه يَحْرُم النظر إليها، كالأجنبية.
فيقال: هذا فاسد الاعتبار؛ لمخالفته الإجماع السكوتي، وهو أنَّ عليًّا غَسَّل فاطمة.
وفي حُكم مخالفة النص والإجماع أن يكون إحدى مقدمات القياس هي المخالِفة للنص أو الإجماع، ويُدَّعَى دخوله في إطلاق مخالفة النص أو الإجماع كما اكتفيتُ بذلك في النَّظم.
وفي معنى ذلك أن يكون الحكم مما لا يمكن إثباته بالقياس، كإلحاق المصرَّاة بغيرها مِن العيب في حُكم الردِّ وعدمه ووجوب بدل لبنها الموجود في الضرع؛ لأنَّ هذا القياس مخالف
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 2125) بلفظ: (من أَسْلَفَ في شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ)، صحيح مسلم (رقم: 1604).
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري، 4/ 428): ("السَّلَمُ" بِفَتْحَتَيْنِ: السَّلَفُ وَزْنًا وَمَعْنًى .. ، وَ"السَّلَمُ" شَرْعًا: بَيْعُ مَوْصُوفٍ فِي الذمَّةِ).

الصفحة 119