كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

السبكي، وقَرَّره في "مَنْع الموانع" بما لا يَشْفِي). فهل يَكون "المنسوبُ" فيه زيادة على "المنسوب إليه" قَيْدًا له مِن حيث النسبة؟ هذا لا يُعْرَف، والله أعلم.
ص:
18 - وَالْأَوَّلُ: "الْأُصُولُ" جَمْعُ "أَصلِ" ... وَهْوَ الدَّلِيلُ ها هُنَا بِوَصْلِ
19 - وَ"الْفِقْهُ" عُرْفًا عِلْمُ حُكْمٍ شرْعِيْ ... مُفَصَّلِ الدَّلِيلِ مِنْهُ فَرْعِيْ
الشرح:
هذا تعريف "أصول الفقه" بالمعنى الأول وهو الإضافي، وكُل مُركَّبٍ فإنما يُعرف بمعرفة أجزائه. فَـ "أصول الفقه" مُرَكَّب مِن مضاف ومضاف إليه.
فأمَّا المضاف فَـ "أصول": جَمْع "أَصْلٍ"، وهو لُغَةً: ما يُبْنَى عَلَيْه غَيْرُه، أو ما يُحتاج إليه، أو ما مِنْه الشيء، أو نحو ذلك مِن الأقوال التي لا طائل في اختلافها. وفي الاصطلاح يُطْلَق غالبًا على الدليل، فإذا وَصلْتَه بالفقه فَقُلْتَ: (دليل الفقه)، كان تفسيرًا لِـ "أصول الفقه" مِن حيث الإضافةُ، وهو معنى قولي: (بِوَصْلِ)؛ لأنَّ المضاف يُفَسَّر مِن حيث هو ومِن حيث اتصاله بالمضاف إليه.
واحترَزْتُ بقولي: (ها هنا) عن إطلاق "الأصل" على غَيْر الدليل في مواضعَ أخرى، كما يُطْلَق:
- عَلَى "الراجح مِن الأَمْرَيْن" في نحو قولك: (الأَصْلُ في الإطلاق الحقيقةُ، لا المجازُ).
أَيْ: الراجح.
- وعَلَى "الأَمر المستمر"، كقولك: (أَكْل الميتة على خِلَاف الأصل). أَيْ: على خِلَاف الحالة المستمرَّة في الحُكْم.
المعدِّلين والجارحين، قال: فإنْ كَثُر المعدِّلون فقبول المعدِّلين أَوْلى.
وقال المازري: (إنَّ [ابن أبي سفيان حكى في كتابه "الزاهر"] (¬1) الخلاف عند التساوي في العدد، قال: فإن زاد عدد المجرِّحين فلا وجه لجريان الخلاف) (¬2).
وبه صرح أيضًا الباجي، فقال: لا خلاف في تقديم الجرح.
وقال الماوردي: لا شك فيه.
وعلى هذا فيخرج في محل الخلاف ثلاث طُرُق، والله أعلم.
ص:
309 - وَيثْبُتُ التَّعْدِيلُ أَيْضًا بِعَمَلْ ... مَنْ يَشْرِطُ الْعَدْلَ لِمَا فِيهِ الْعَمَلْ
310 - رِوَايَةً تَكُونُ أَوْ شَهَادَهْ ... كَذَا إذَا عَنْهُ رَوَى مُعْتَادَهْ
الشرح:
التعديل والتجريح إما بالتصريح وإما بالتضمن لأمرٍ، فلمَّا انقضى القسمُ الأول شرعتُ في الثاني، فذكرت في التعديل الضمني أمرين:
أحدهما: أن يُعمَل بخبره، وتحته صورتان:
الأُولى: عمل العالِم برواية راو وقد عُلم مِن قاعدته أنَّه لا يَعمل إلا بقول العدل- يكون تعديلًا له كما حكاه القاضي أبو الطيب عن الأصحاب، ونقل الآمدي فيه الاتفاق.
¬__________
(¬1) كذا في جميع النُّسخ، وعبارة المازري في كتابه (إيضاح المحصول، ص 479): (ابن شعبان من أصحابنا ذكر في كتابه المترجَم بِـ "الزاهي").
(¬2) إيضاح المحصول (ص 479).
إنَّ مَن ساد ثُم ساد أبُوه ... ثُم ساد قبل ذلك جده
فهو ترتيب في الإخبار، لا في الوجود.
واعلم أنه في "جمع الجوامع" نقل المخالفة في الترتيب عن العبادي فقط، وهو مع قصوره وَهْم على العبادي تبع فيه والده في "فتاويه" وغيره من المتأخرين، فنقلوا عنه في نحو: "وقفت هذا على زيد ثم على أولاده ثم أولاد أولاده" أنه يشترك الكل.
وأنكروه حتى قال ابن أبي الدم في "أدب القضاء": إن هذا زلة من كبير.
وقال الشيخ تقي الدين: لعل مأخذه أن "وقفت" إنشاء، [فلا] (¬1) مدخل للترتيب فيه، نحو: بِعْتُ هذا ثم هذا.
لكن العبادي إنما قاله في صورة ما لو زاد على التصوير المذكور بطنًا بعد بطن كما نقله عنه القاضي حسين في كتاب "الوقف" بناء عنده على أن هذا يقتضي التسوية، فهو ينافي معنى "ثم"، فيرجع إلى أصل الاشتراك؛ حملًا على السداد، لا لكون "ثم" ليست للترتيب، فهو كما لو قال: (له عَلَيَّ درهم ثم درهم)، يَلْزمه درهمان؛ لأن الترتيب لا معنى له، فهو هنا جمع كالواو.
قلتُ: قولهم (يقتضي عنده التسوية) يُنَبِّه على أن لفظ "بطنًا بعد بطن" عند غيره يقتضي الترتيب أيضًا، فهو موافق لمعنى "ثُم"، لا مخرج لها عن الترتيب، بل لو كان العطف بالواو وزاد قوله بعد ذلك: (بطنًا بعد بطن)، كان للترتيب، خِلافًا للبغوي، ووافقه عليه في "المحرر" و"المنهاج".
والمختار ما سبق؛ لأن لفظ "بعد" يُشعر بالترتيب قطعًا، وذِكر "بعد" للوجود، لا
¬__________
(¬1) في (ت، ق): لا.
"التخصيص"، بخلاف "الإيضاح" فإنه لا يخرج به شيء.
وقد يقال: لا ينافي هذا كلامهم؛ لأنَّ اسمَ الجنس المعرَّف باللام نَكرةٌ في المعنى؛ فلذلك يوصف بالجملة إنْ رُوعِي المعنى، ويأتي [منها] (¬1) الحال إنْ رُوعِي التعريف في اللفظ.
وأما الثاني: فظاهر تَصرُّف أصحابنا أن صفة النكرة للتوضيح، خلافًا لقول أبي حنيفة: إنها للتخصيص. ولذلك كانت العاريَّة -عندنا- مضمونة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في [قصة] (¬2) صفوان بن أمية: "عاريَّة مضمونة" (¬3) وعنده أمانة إلا إذا شرط ذلك، وعليه يُحمل الحديث.
ومنشأ الخلاف: هل الصفة هنا للإيضاح؟ أو للتخصيص؟
ونحوه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، إنْ قُلنا: للتوضيح، فلا ملك للعبد، أو: للتخصيص، فيملك.
فإنْ قيل: كيف اتفقوا على أن الصفة مِن جملة المخصصات، واختلفوا في أن مفهوم الصفة حُجة؟ أو لا؟
قيل: ورود الصفة مخُرج مِن الحكم على العام، ويبقى النَّظر في المُخْرَج: هل يُحْكَم عليه بضد الحكم؟ أو هو مسكوت لا يُعْلَم حُكمه؟ جاء الخلاف في المفهوم. والله أعلم.
¬__________
(¬1) كذا في (س، ض)، لكن في (ق، ص): منهما.
(¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): قضية.
(¬3) مسند أحمد (15337)، سنن أبي داود (رقم: 3562) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3562).
لصريح النَّص الوارد فيها، أو كان تركيبه مُشعرًا بنقيض الحكم المطلوب.
وإنما سُمي هذا النوع بذلك لأنَّ اعتبارَ القياس مع النَّص أو الإجماع اعتبار له مع دليل أقوى منه، وهو اعتبار فاسد؛ لحديث معاذ، فإنه أخَّر الاجتهاد عن النص.
فإنْ قيل: هذا النوع يؤول إلى الذي قبله؛ لأنَّ كُلًّا منهما اجتهاد في مقابلة النص، فما وَجْه تمييزه عنه؟ ولذلك جعلهما الشيخ أبو إسحاق واحدًا.
فالجواب: أنَّ مِن أنواع فساد الاعتبار كَوْن تركيبه مُشْعِرًا بنقيض الحكم المطلوب، فهو أَعَم مِن فساد الوضع.
فلذلك قال الجدليون في ترتيب الأسئلة: إنَّ فساد الاعتبار مقدَّم على فساد الوضع؛ لأنَّ فساد الاعتبار نَظَر في فساد القياس مِن حيث الجملة، وفساد الوضع أَخَص باعتبار لأنه يَستلزم عدم اعتبار القياس؛ لأنه قد يكون بالنظر إلى أمر خارج عنه.
وممن قال: (إنَّ فساد الاعتبار أعم) الهندي، لكن هذا لا يتأتى على تفسيرهما بما سبق.
نعم، للمستدل تقديم هذا السؤال على سؤال المنوعات؛ لأنه لَمَّا كان فاسد الاعتبار، أَغْنَى ذلك عن منع مقدماته، وله أنْ يؤخره؛ لأنَّ المستدِل يُطالَب أولًا بتصحيح مُقدِّمات ما ادَّعاه مِن صحة القياس، فإذا قام بذلك فإنْ أَمْكَن إثبات مقتضاه أثبت، وإلا رُدَّ؛ لعدم اعتباره.
تنبيه:
جواب هذا السؤال بأحد وجوه:
منها: الطعن في النَّص الذي ادُّعِي أنَّ القياس على خِلافه، إما بمنع صحته؛ لضعف إسناده، أو منع دلالته، أو غير ذلك.
ومنها: المعارَضة بنص آخَر؛ فيسلم القياس حينئذٍ.

الصفحة 120