- وعَلَى ما يُقابِل "الفَرْع" في باب القياس، وسيأتي.
وأَمَّا المضاف إليه (وهو "الفقه") فهوَ في اللغة: الفَهْم، قال تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وعَبَّر عنه ابن فارس في "المجمل" بِـ "العِلْم"، وجَرَى عليه إمام الحرمين في "التلخيص"، وإلكِيَا الهْرَّاسِي وأبو نصر القُشيري والماوردي، وفَسَّره الراغبُ بِأَخَصّ مِن الفَهْم والعِلم، فقال: (التوصل إلى عِلْمٍ غائبٍ بِعِلْمٍ [شاهدٍ]) (¬1).
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وصاحب "اللُّباب" مِن الحنفية: (فَهْم الأشياء الدقيقة). ولا يَحْسُن الردُّ عليهما بِنَحْو: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]؛ لأنَّ ذلك كُله مَظِنَّة الخفاء.
وأمَّا في الاصطلاح: فهو عِلْم حُكْمٍ شرعي فَرْعي مِن دليل تفصيلي.
فَـ "العِلْم" كالجنس، والمراد به هنا مُطْلَق التصديق، وهو ثاني إطلاقات "العِلْم" الآتي ذِكْرها؛ ليشمل اليقين والظن؛ لأنَّ مجرد الدليل النقلي لا يفيد إلَّا الظن، وأدلة الفقه نَقْلِيَّة.
نَعَم، ما كان يقينًا لِكَوْنه مِن ضروريات الدِّين (كإيجاب الصلوات الخَمس، والزكاة، والصوم، والحج، وتحريم الزنى والسرقة، ونحو ذلك) ليس مِن الفقه؛ لأنه ليس مُسْتَخْرَجًا مِن دليل تفصيلي، وهذا أَصْوَبُ مِن ادِّعاء أنَّ الفقه قَطْعي كما زَعَمه الإمام وأتباعه كالبيضاوي، وقَرَّروه بدليل لا يُفِيدُهم المُدَّعَى؛ لفساده مِن وجوه كما بُيَّن ذلك في مَوْضعه.
نَعَم، سَبَق الإمامَ إلى نحو ذلك إمامُ الحرمين حيث قال في جواب السؤال: (ليست الظنون فِقْهًا، إنما الفقه العِلْم بوجوب العمل عند قيام الظنون) (¬2).
¬__________
(¬1) في (ز): مُشاهَد.
(¬2) البرهان في أصول الفقه (1/ 87).
ورُدَّ بأن الخلاف محكي في "تقريب" القاضي و"منخول" الغزالي، وكذا حكى إمام الحرمين وابن القشيري فيه أقوالًا، ثالثها: الصحيح إنْ أمكن أنه عمل بدليل آخَر فليس بتعديل، وإنْ بَانَ بقوله أو بقرينة أنَّ عمله إنما هو بالخبر الذي رواه ذلك الراوي فتعديل.
ورجح هذا أيضاً القاضي في "التقريب"، قال: وفرقٌ بين قولنا: (عمل بالخبر)، و: (عمل بموجَب الخبر).
نعم، الشرط -كما قال القاضي والإمام والغزالي- أنْ لا يكون ذلك من مسائل الاحتياط ويظهر أنَّ عمله به للاحتياط، فإنه حينئذ ليس تعديلًا.
وقال إلْكِيَا: إنْ كان من باب الاحتياط أو لم يكن من المحظورات التي يخرج المتحلي بها عن سمة العدالة، لم يكن تعديلاً. قال: ومن فروع هذه قبول المرسل.
وفي المسألة مذهب آخَر لبعض المتأخرين، وهو التفصيل بين:
- أنْ يعمل بذلك في الترغيب والترهيب، فلا يُقبل؛ لأنه يُتسامَح فيه بالضعف.
- أو غيرهما، فيكون تعديلًا.
وهو حَسَن.
الثانية: عملُ الحاكم بشهادته تعديلٌ له كما قاله القاضي والإمام، بل قال القاضي: إنه أقوى من التعديل باللفظ وبقيَّة الطُّرق.
والشرط كما بيَّنَّا أن لا يكون الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب، بل يَشترط فيه العدالة كما قيَّد بذلك الآمدي وإنْ أَطلق الإمام الرازي وأتباعُه المسألة.
لكن قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: هذا قوي إذا منعنا حُكم الحاكم بعلمه، وإلا فيُحتمل أنه إنما قضَى بعلمه لا بالشهادة؛ فلا يكون تعديلًا إلاَّ إن تَيقَّنا أنه إنما حكم بشهادته دُون علمه. وبذلك صرح العبدري في "شرح المستصفى".
للاستحقاق (وكأنه قال: الذين يوجَدون بطنًا بعد بطن) بعيدٌ من العُرْف.
وأما التراخي فالمخالف فيه الفراء، قال: (بدليل "أعجبني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب") (¬1).
فَـ "ثم" في ذلك كله لترتيب الإخبار، ولا تراخي بين الإخبارين.
ووافقه على ذلك ابن مالك، وجعل منه: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا} [الأنعام: 154].
قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": ولكونها للتراخي امتنع أن يجاب بها الشرط؛ لأن الجزاء لا يتراخى عن الشرط؛ ولذلك أيضًا لا تقع في باب التفاعل والافتعال؛ لمنافاة معناها معناهما.
ورُد بغير ذلك أيضًا.
قال الراغب: (والعبارة الجامعة أن يُقال في "ثم": إنها حرف عطف يقتضي تَأخُّر ما بعده عمَّا قَبْله، إما تأخُّرًا بالذات، أو بالمرتبة، أو بالوضع) (¬2).
والله أعلم.
ص:
492 - "عَلَى" للاسْتِعْلَاءِ، وَالْمُصَاحَبَهْ ... تَجَاوُزٍ، وَعِلَّةٍ مُصَاحِبَهْ
493 - ظَرْفِيَّةً تُفِيدُ، وَاسْتِدْرَاكَا ... أَيْضًا، وَقَدْ تُزَادُ، فَاعْرِفْ ذَاكَا
¬__________
(¬1) معاني القرآن (2/ 411)، الناشر: عالم الكتب، الطبعة: الثالثة - 1983 م.
(¬2) المفردات في غريب القرآن (ص 81).
ص:
641 - وَهْوَ كَالِاسْتِثْنَاءِ أَيضًا عَائِدُ ... لِلْكُلِّ مِنْ قَبْلُ وَبَعْدُ عَاضِدُ
642 - أَمَّا إذَا تَوَسَّطَتْ تِلْكَ الصِّفَهْ ... فَهْيَ لِمَا [تَلِيهِ] (¬1)، لَا مَا خَلَفَهْ
الشرح: سبق في الاستثناء ثلاثة أمورٍ:
أحدها: وجوب الاتصال، والصفة في ذلك مِثله وإنْ لم أتعرض له في النَّظم؛ لشهرته لا سيما في الصفة التي هي النعت؛ لأن التوابع لا تُفصل من متبوعاتها بِمُبَايِن مَحْض، بخلاف ما لا يتمحض مباينته فإنه يُغتفَر الفصل به، كالمبتدأ [في] (¬2) نحو: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، وكالخبر [في] (¬3) نحو: (زيد قائم العاقل)، وكمعمول الصفة نحو: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44]، بخلاف نحو: (مررت برجل على فرس عاقل أبلق)، فإنَّ ذلك متمحض [المباينة] (¬4).
قال المازري: لا خلاف في وجوب اتصال التوابع، وإنما الخلاف في الاستثناء. لكن جَوَّز بعضهم -حثًا- أن تكون الصفة المخصِّصة للعموم كالاستثناء في جريان خلاف الاتصال فيها.
الثاني: إخراج الأكثر والمساوِي على الراجح، فهل يأتي مِثله في المحض ويجري الخلاف فيها؟
¬__________
(¬1) كذا في (ت، س، ن 5) وهو أَوْفَق للمعنى. لكن في (ص، ض، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4): يليه.
(¬2) من (ص).
(¬3) من (ص).
(¬4) في (ص، ق): المناسبة.
ومنها: أنْ يُبين المستدِل رجحان قياسه على النَّص الذي ذُكِر أنه معارض بما ذكر في خبر الواحد.
كقولنا في متروك التسمية: ذَبْح صَدَر مِن أَهله في محله؛ فيحل، كذبح ناسي التسمية.
فيورد المعترِض: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، ويقول: قياسك فاسد الاعتبار؛ لمعارضة هذا النَّص.
فيقول المستدِل: هذا محمول على تحريم مذبوح عَبَدة الأوثان، فإنَّ عدم ذِكر الله أمر غالب على أهل الشرك. فإذا انقدح هذا الاحتمال، صير إليه؛ بدليل الحديث الصحيح: "أنَّ قومًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتوننا باللحم ما ندري أَذَكروا اسم الله عليه؟ أم لا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سموا عليه وكلوا" (¬1).
ومنها: منع ظهور دلالته على ما يَلزم منه فساد القياس.
ومنها: أنْ يُدَّعَى أن النَّص المعارَض به [مُؤَوَّل] (¬2) بدليل يرجحه على الظاهر.
ومنها: أنْ يقول بموجَبه، أي: يُبْقِيه على ظاهره، وَيدَّعِي أنَّ مدلوله لا ينافي القياس. إلى غير ذلك من الطرق.
ومما يمثَّل به في كثير مِن الأجوبة قياسنا المثقل على المحدد، فيعارَض بما رواه علي- كرم الله وجهه- من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قود في النفس وغيرها إلا بحديدة" (¬3). فيطعن المستدِل في سنده بأنَّ في رواته مُعلَّى بن هلال، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي. ومُعلَّى قال ابن معين: (كان يضع الحديث).
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 1952).
(¬2) كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: ما دل.
(¬3) سنن الدارقطني (3/ 87)، وفي إسناده معلى بن هلال، قال الدارقطني: (مُعلَّى بن هلال متروك).