كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

فأخذه الإمام الرازي وبسطه (¬1).
ثُم المراد بِـ "العِلم بالأحكام": التصديق بِتَعَلُّقها بأفعال المكلَّفين، لا تَصَوُّرها (لأنَّ ذلك مِن مبادئ أصول الفقه كما سيأتي)، ولا التصديق بثبوتها (لأنَّ ذلك مِن عِلم الكلام).
وإنما قُلْتُ: (عِلْم) بالتنكير، ولَم أُعَرِّفه باللام؛ لأنَّ التعريف إنما هو للماهية مِن غير اعتبار كميَّة مشخَّصاتها، ودخول اللام إنما هو لكمية عموم أو خصوص يُعْهَدُ. فإنْ أُرِيدَ بها الجنس فَلَم تُفِد زيادة، فلا حاجة لها؛ لأنَّ اللفظ المُنَكَّر هنا لَمْ يقصد به فَرْد مُبْهَم شائع، بل أُرِيدَ به مُطْلَق الحقيقة، وسيأتي الفَرْق بين المُطْلَق والنَّكرة.
وخرج بِقَيْد إضافة "العِلْم" لِلْـ "حُكْم" ما تَعَلَّق بالذات أو الصفة أو الفعل. وإنما لَمْ أَقُل "بالحكم" لأنَّ "عِلْم" يَتَعَدَّى بنفسه، فزيادة الباء تحتاج إلى تأويله بتضمين العلم معنى الإحاطة، أو غَيْر ذلك، وإنْ كُنتُ أتيتُ بالباء في تعريف "أصول الفقه" جَرْيًا على المشهور في العبارة؛ لِمَا حصل به مِن سهولة نَظْمه هناك.
وإنما لَمْ أُعَرِّف الحكم ولا قُلتُ "الأحكام" بالجَمْع؛ لِمَا ذُكِرَ في تنكير "عِلْم".
وأيضًا فلو أَتَيْتُ باللام:
1 - فإنْ كانت للاستغراق، فيخرج فِقْه الأئمة الذين أجابوا في مسائل بِـ "لا أَدْرِي"؛ فلا يَكُون التعريف جامعًا؛ فَقَدْ روى ابن عبد البر في مقدمة "التمهيد" أنَّ مالكًا سُئِل عن ثمانية وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: "لا أَدرِي". وحكى العبادي (مِن أصحابنا) في فتاويه أنَّ أبا حنيفة سُئل عن خمس مسائل، فقال فيها: "لا أدْرِي": الخنثى الذي له آلة الرجال وآلة النساء، ووقت الختان، وأطفال المشركين، ومَن حلف لا يكَلِّم فلانًا دَهْرًا، وهل يَجوز للقَيِّم نقش جدار المسجد مِن غلة الوقف؟
¬__________
(¬1) المحصول (1/ 92).
الأمر الثاني: أنْ يروى عنه مَن عادته أنْ لا يروي إلا عن عدلٍ، كيحيى بن سعيد القطان وشعبة ومالك ونحوهم. قال البيهقي: وقد تقع رواية بعضهم عن بعض الضعفاء؛ لخفاء حالِه، كرواية مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق.
فيكون تعديلًا له -على المختار عند إمام الحرمين وابن القشيري والغزالي والآمدي وابن الحاجب والهندي والباجي وغيرهم- بشهادة ظاهر الحال، وإليه ذهب البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقال المازري: إنه قول الحذاق.
وهذا على قول مَن لا يَشترط بيان سبب التعديل، أمَّا مَن يشترط فلا يكون مجرد الرواية عنه تعديلًا ولو كان مِن عادته أن لا يَروي إلا عن عَدْل؛ لأنهم قد يروون عمن لو سُئلوا عنه لجرَّحوه، ووقع ذلك كثيرًا (¬1).
قلتُ: هذا ينافي كَوْن مِن عادته أنْ لا يَروي إلاَّ عن عدل، فإنَّ الظاهر أنه لو سُئل عَمن يروي عنه لَعَدَّلَه ولم يجرحه.
ويُعرَف كونه لا يَروي إلا عن عَدْل إما بتصريحه وهو الغاية، أو باعتبارنا لحاله واستقرائنا لمن يروي عنه، وهو دُون الأول. قاله ابن دقيق العيد، قال: (وهل يكتفَى بذلك في قبول روايته عمن لا [نعرفه] (¬2)؟ فيه وقفة لبعض أصحاب الحديث من المعاصرين، وفيه تشديد). انتهى
¬__________
(¬1) هذه الفقرة جاءت هكذا في جميع النُّسخ، ويظهر لي وجود خَلَل فيها، وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 348): (قَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْحُذَّاقِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: لَا حَاجَةَ لِبَيَانِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ. فَإِنْ رَوَى عَنْهُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الرِّوَايَةَ عَن الْعَدْلِ فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ؛ لِأَنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَرْوُونَ عَنْ أَقْوَامٍ، وَيَجْرَحُونَهُمْ لَوْ سُئِلُوا عَنْهُمْ).
(¬2) كذا في (ز). وفي (ظ): تعرفه. وفي (ص، ش): يعرفه.
الشرح:
"على" -التي هي حرف جر- لها معانٍ:
أحدها: الاستعلاء إما حسًّا نحو: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] أو معنًى نحو: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]، و: (عَلَى فلان دَيْن). كأنه بلزومه صار عاليًا على المديون، كما يقال: (ركبهُ الدَّين). ولم يُثبِت لها أكثر البصريين غير هذا المعنى، وردُّوا الكل إليه.
نعم، مثل قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 3] لا استعلاء فيه، لا حقيقةً ولا مجازًا، وإنما هو بمعنى الإضافة، أي: أضفتُ توكُّلي إلى الله.
الثاني: المصاحبة، نحو: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177].
الثالث: المجاوزة بمعنى "عن"، كقوله:
إذا رضيت على بنو قُشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وخرج عليه المزني وابن خزيمة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام الدهر، ضيقت عليه جهنم" (¬1). أي: عنه، فلا يدخلها.
الربع: التعليل، كقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]. وهو معنى قولي: (وَعِلَّةٍ مُصَاحِبَهْ). أي: مصاحبة لمعلولها، غير متخلفة عنه. وهذا شأنها، فليس المراد به قيدًا مُخْرِجًا.
الخامس: الظرفية، كقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}
¬__________
(¬1) مسند الإمام أحمد (رقم: 19728)، صحيح ابن حبان (3584) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3576).
ظاهرُ إطلاق البيضاوي وغيره أن الصفة كالاستثناء -جريانُه (¬1)، وهو محتمل، لكن لم أره تصريحًا، فلذلك لم أتعرض أيضًا في النَّظم له.
الثالث: إذا تعقب جُملًا أو مفردات، هل يعود للكل؟ أو للأخير؟ على الخلاف السابق، فهل يأتي مِثله في الصفة؟
الذي يقتضيه كلام أصحابنا في الفقه أنه يعود للكل.
وفي "المحصول" للإمام: (إذا تعقبت الصفة شيئين فإما أن يتعلق أحدهما بالآخَر كَـ: "أكرم العرب والعجم المؤمنين"، فتكون عائدة إليهما، أو لا يكون كذلك كَـ: "أكرِم العلماء وجالِس الفقهاء الزهاد"، فهُنا الصفة عائدة للأخيرة).
قال: (وللبحث فيه مجال كما في الاستثناء) (¬2).
فلم يصرح الإمام بأن أبا حنيفة يخُصها بالأخير كما في الاستثناء، لكنه في أثناء الاستدلال في الاستثناء المتعقب للجُمل نقل عن أبي حنيفة أن الحال أو الظرف أو الجار والمجرور إذا تعقب متعددًا، يختص بالأخير على قول أبي حنيفة، ولهذا يستدرك -على مَن استدل على أبي حنيفة بالعَوْد في ذلك على الكل فينبغي أن يكون الاستثناء كذلك- بأنَّ هذا أيضًا مما يخالف فيه أبو حنيفة، فلا يُستدل به عليه. وإذا كان هذا قول أبي حنيفة في الحال والظرف والمجرور مع أنها كما سبق صفات، فيؤخذ منه أنه يقول به في مُطلق الصفة.
وجرى الصفي الهندي على أن الصفة المتعقبة لمتعدد يجري فيها الخلاف في الاستثناء.
قولي: (مِنْ قَبْلُ وَبَعْدُ عَاضِدُ) إشارة إلى أن الصفة تعود للكل، سواء تأخرت عن المتعدد أو تقدمت، كما لو قال: (وقفتُ هذا على محتاجي أولادي وأولادهم)، فتعتبر الحاجة في
¬__________
(¬1) يعني: ظاهر إطلاق البيضاوي جريانُه. يعني: جريان الخلاف.
(¬2) المحصول (3/ 69).
ويمنع ظهوره في مقصدهم بأنْ يقول: مِن محتملاته الظاهرة أنه لا يمنع الاستيفاء إلا بحديدة كما ذهب إليه بعض العلماء وتأوله بأن لا قود يَعُم النفس وغيرها إلا بحديدة بخلاف المثقل، إذ ليس فيه من النكاية في الباطن ما في المحدد، فليس عمومه كعموم المحدد. ألا ترى أنَّ الضرب بِعَصا خفيفة لا يوجِب القصاص، والجرح اليسير يوجب؟
ويقول بموجَبه، وذلك إذا قتل بحديدة فلا يُقاد منه إلا بحديدة. ويعارضه بما في "الصحيحين" من أنَّ: "يهوديًّا رض رأس امرأة بين حجرين، فقتلها؛ فرضخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه بين حجرين" (¬1). ويرجح قياسنا باعتضاده بالحديث وغير ذلك من المرجِّحات. والله أعلم.
ص:
876 - وَ"الْمَنع" قَدْ يَكُونُ لِلْعِلِّيَّهْ ... وَطَلَبِ التَّصْحِيحِ بِالْجَلِيَّهْ
877 - أَوْ مَنْعُ كَوْنِ الْوَصْفِ فِيهَا يُعْتَبَرْ ... أَوْ كَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ ثَابِتًا يُقَرْ
الشرح:
من القوادح: "المنع"، وهو: منع العِلية في الوصف الذي عَلَّل به المستدِل، والمطالبة بتصحيح ذلك.
قال ابن الحاجب: (وهو مِن أعظم الأسئلة؛ لعمومه و [تَشعُّب] (¬2) مسالكه).
أي: إنه يَعُم كل ما يُدَّعَى أنه عِلة، وطُرقه كثيرة مختلفة، ويقال له: "سؤال المطالبة".
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 2282)، صحيح مسلم (1672).
(¬2) في (ص): تشعث. وفي (ق): تشعيث.

الصفحة 122