وفي كتاب "مآل الفتاوى" للشريف أبي القاسم ابن يوسف الحَسَني الحنفي (مؤلف كتاب "النافع" وغَيْره) مسائلُ غَيْرُ [الخمسة] (¬1) قال فيها أبو حنيفة: "لا أَدْرِي"، فذكر ثمانية: ما الدهر؟ ومحل أطفال المشركين، ووقت الختان، وإذَا بال الخنثى مِن الفرجين، والملائكة أفضل؟ أَمِ الأنبياء؟ ومتى يصير الكلب معلَّمًا؟ وسؤر الحمار، ومتى يطيب لم الجلَّالة؟
فيحصل مِن مجموع النَّقْلَيْن تِسع مسائل.
وفي مقدمة "شرح المهذب" للنووي: (عن الأثرم: سمعتُ أحمدَ بنَ حَنْبَل يُكْثِرُ أنْ يَقُول: "لا أَدْرِي") (¬2).
وفي "تذكرة السامع والمتكلم" لقاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة أنَّ الشافعي سأله محمد بن عبد الحكم عن المتعة [أَكَان] (¬3) فيها طلاقٌ أو ميراثٌ أو نفقة تجبُ أو شهادةٌ؟ فقال: (والله ما نَدْرِي) (¬4).
وهذا وإنْ لَمْ يَكُن مِن النوع الماضي بل مِن قبيل التاريخ لكن فيه التنبيه على أنَّ العالِمَ إذَا سُئِلَ عَمَّا لا يَعْرِف، يقول: "لا أَدْرِي"؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (إذَا أَخْطَأ العالِمُ "لا أَدْرِي"، أُصِيبَتْ مَقَاتِلُه) (¬5). ورواه البيهقي في "المدخل" مِن حديث أحمد، عن الشافعي، عن مالك، عن محمد بن عجلان: أنَّ محمد بن عجلان قاله أيضًا، لكن بِلَفْظ: (إذَا أَغْفَلَ
¬__________
(¬1) في (ز): ذلك.
(¬2) المجموع شرح المهذب (1/ 73)، الناشر: مكتبة الإرشاد - جدة، تحقيق: محمد نجيب المطيعي.
(¬3) في (ش): ان كان.
(¬4) تذكرة السامع والمتكلم (ص 68)، طبعة: دار البشائر الإسلامية - بيروت.
(¬5) جامع بيان العلم وفضله (2/ 54).
ووراء التفصيل في أصل المسألة قولان:
- المنع مطلقاً، وبه جزم الماوردي والروياني وابن القطان، وهو محكي عن أكثر أهل الحديث، وفي "التقريب" للقاضيْ إنه قول الجمهور، وإنه الصحيح.
- وكونه تعديلًا مطلقًا وإلا لَكان غِشًّا. حكاه الخطيب وغيره.
ويخرج من تصرف البزار في "مسنده" قول آخَر: إنَّ رواية كثير من العدول عنه تعديلٌ، بخلاف القليل.
وحيث قُلنا: (تعديل) فهو تفريع على جواز تعديل الراوي لمن روى عنه، وفيه في باب الأقضية من "الحاوي" حكاية وجهين في أنه هل يجوز للراوي تعديل مَن روى عنه؟ كالخلاف في تزكية شهود الفرع للأصل (¬1).
قولي: (مَنْ يَشْرِطُ الْعَدْلَ) أي: العدالة، فهو مَصْدر؛ لكنه يستعمل في الوصف مجازًا. و"مُعْتَادَهْ" نَصْبٌ على الحال؛ لأنَّ إضافته غير محضة، والتقدير: معتادًا إياه. والله أعلم.
ص:
311 - وَلَيْسَ تَرْكُ عَمَلٍ بِمَا شَهِدْ ... أَوْ مَا رَوَى جَرْحًا؛ فَذَا لِلْمُجْتَهِدْ
الشرح:
هذا عكس صورتَي الأمر الأول، وهُما: عمل العالم بروايته والقاضي بشهادته. فإذا لم يعملا بها فهل يكون ترك العمل جرحًا للراوي والشاهد؟ أوْ لا؟
الجمهور على المنع؛ لأنَّ العمل قد يتوقف على أمرٍ آخَر زائد على العدالة، فيحتمل أنْ
¬__________
(¬1) الحاوي الكبير (17/ 230).
[البقرة: 102]. أي: فيه.
السادس: الاستدراك، نحو: (فلان لا يدخل الجنة؛ لسوء صنيعه، عَلَى أنه لا ييأس من رحمة الله).
وربما تكون "على" زائدة، لا معنى لها غير التوكيد والتقوية، خلافًا لقول سيبويه: إنها لا تزاد.
ومثال زيادتها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حلف على يمين" (¬1). أي: مَن حلف يمينًا. ومنهم من خرجه على أن المراد: على محلوف يمين، فلا زيادة فيه، ويبقى النظر في أي المجازين أرجح: الزيادة؟ أو النقص؟ والأكثر الثاني.
وقد تُزاد للتعويض مِن "على" أخرى محذوفة، كقول الشاعر: إنْ لم يجد يومًا على مَن يتكل.
أي: إنْ لم يجد مَن يتكل عليه.
تنبيه:
قد تخرج "على" عن الحرفية، وهو ما احترزنا عنه أولًا بقولنا: "على" التي هي حرف جر، فتكون اسمًا -على الأصح- بمعنى "فوق"، وذلك إذا دخل عليها حرف جر، كقول الشاعر: غَدَتْ مِن عليه بَعْدَمَا تَمَّ ظمؤهَا.
قال الأخفش: أو يكون مجرورها ومتعلقها (أي: معموله) ضميرين لمسمى واحد، كقوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37].
ومقابِل الأصح قول السيرافي: إنها لا تكون اسمًا أبدًا ولو دخل عليها حرف جر، بل
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 2229)، صحيح مسلم (رقم: 138).
أولاد الأولاد كما في الأولاد.
قال الرافعي: وأطلق الأصحاب ذلك.
ورأى الإمام تقييده بالقيدين السابقين في الاستثناء، أي: كون العطف بالواو، وأن لا يفصل بينهماكما سبق بيانه.
وقولي: (أَمَّا إذَا تَوَسَّطَتْ) إلى آخِره فالمراد به أن الصفة إذا لم تتقدم على المتعدد ولا تأخرت بل توسطت، فإنما تعود للذي قبلها، لا لما بعدها، نحو: (وقفتُ على أولادي المحتاجين وأولادهم).
ويدل لاختصاصها بما وليته ما نقله الرافعي في "الأيمان" عن ابن كج أنه: (لو قال: "عبدي حر إن شاء الله وامرأتي طالق" ونوى صرف الاستثناء إليهما) (¬1) إلى آخِره، فإن مفهومه أنه لو لم يَنْوِ، لَمَا عاد لِمَا بَعْده. وإذا كان هذا في الشرط الذي له صَدْر الكلام وقد قال بِعَوْده للجميع بعضُ مَن لا يقول بِعَود الاستثناء والصفة للجميع، فلأنْ يجري مِثل ذلك في الصفة بطريق الأَوْلى.
نعم، حكى فيه ابن داود في "شرح مختصر المزني" خلافًا، وبَنَى عليه إيجاب المتعة للمطلقة بعد الدخول، فقال في قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236]: يحتمل أن يعود على مَن سبق وهُن غير الممسوسة والمفروض لها، أي: ومتعوا النساء الموصوفات بذلك، فلا تجب المتعة لغيرهن. ويحتمل أن يعود على مُطلق النساء، أي: ومتعوا النساء، فتجب المتعة للكل. وتقرير كون ذلك مِن الصفة المتوسطة أن نفي الجناح مُقيَّد بالنساء التي لم يُمسسن ولم يُفرض لهن.
وقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} لمطلق النساء من غير الصفة في الذي قبله، فالصفة متوسطة.
¬__________
(¬1) العزيز شرح الوجيز (12/ 233).
وحيث أُطلقت المطالبة فلا يقصد في العُرف سوى ذلك. ومتى أُريدَ غيره ذُكِر مُقَيَّدًا، فيقال: المطالبة بكذا.
وفي قبوله خلاف، والأصح المختار قبوله، وإلا لأدَّى الحال إلى اللعب مِن التمسك بكل طرد من الأوصاف، كالطول والقصر، فإنَّ المستدِل يَأْمَن المنع ويتعلق بما شاء مِن الأوصاف.
وقيل: لا يُقبل؛ لأنَّ القياس رَدُّ فرع إلى أصلٍ بجاِمع، وقد وُجِد، فَفِيمَ المنع؟
ورُدَّ بأنَّ ذلك [بظن] (¬1) الصحة، والوصف الطردي مظنون الفساد.
وجواب سؤال المنع بأنْ يُثبت المستدِل عِلية الوصف بأحد الطُّرق المفيدة للعلة من إجماع أو نَص أو مناسبة أو سبر أو غير ذلك مما سبق.
وقولي: (أَوْ مَنع) إلى آخِره -أي: إنَّ المنع إما أنْ يُطْلق أو يُقَيّد، كمنع كون الوصف الذي عَلل به المستدل معتبَرًا في ذلك الحكم بخصوصه، بل في أعم منه.
كقولنا في إفساد الصوم بغير الجماع من أكل وشرب: لا تجب الكفارة؛ لأنها شُرعت زَجْرًا عن ارتكاب الجماع الذي هو محذور الصوم؛ فاختص به، كالحد.
فيقول المعترِض: لا نُسَلم ذلك، بل شُرعت زجرًا عن مُطْلق محذور الإفطار، وذلك شامل للجماع وغيره.
فيجيب المستدِل عن ذلك بأنَّ الشارع إنما رَتَّب الكفارة على خصوص الإفطار بالجماع، وليس غَيْرُه في معناه؛ فوجب أن تكون العلة هي الجماع فقط.
وكأنَّ المعترِض يُنَقِّح المناط بحذف خصوص الجماع، فإنه لا أثر له، ويُبْقِي مُطْلَق
¬__________
(¬1) كذا في (ض)، لكن في (ص): يظن.