الحاكِمُ) (¬1).
وإذَا كان كذلك، فلا يَكُون التعريف جامعًا.
وقد أُجِيبَ عن ذلك بأنهم كانوا يَعرفون الكل بالقوة، بمعنى أنهم لو اجتهدوا فيه، لَعَلِمُوه، ولكن شَغَلهم (وقت الجواب بِـ "لا أَدْرِي") ما هو أَهَم، أو تَرَكوا الجواب لِمَعنى آخَر، فالله أعلم.
نَعَم، إطلاق أنهم عَلِموا بِمَعْنى القوة - مَجَاز يُصان عنه الحدُّ، إلَّا أنْ يُدَّعَى قرينة أو اشتهار عُرْفِي صَيَّرَه حقيقة.
2 - وإنْ كانت اللام للعهد، فليس هناك معهود، ولو سُلِّمَ فالمراد الأَعَم.
3 - وإنْ كانت للجنس، فتقتضي أنَّ بِعِلْم المقَلِّد بعض [مسائل] (¬2) الفقه يَكون فقيهًا، ولا قائل به؛ فلا يَكون التعريف مانعًا؛ لأنَّ ما عَرَفه المقلِّد ليس فِقْهًا وقد دخل في التعريف.
وقد أُجِيب عنه بأنه لَمْ يَعْرف ذلك مِن دليل تفصيلي، وإلَّا لكان فقيهًا، والمراد إنما هو أنْ يَعرفه مِن دليله التفصيلي كما سيأتي.
إذَا عَلِمتَ ذلك، عَلِمْتَ أنَّ حذف لام التعريف تُغْنِي عن الأسئلة والأجوبة، ولذلك أيضًا لَمْ أَقُل: "أحكام" بالجمع كما عَبَّر به كثيرٌ؛ لأنَّ الكمية خارجة عن الحقيقة، وهو واضح، فَفِي الإفراد سلامة مِن ذلك، وفي التجريد مِن اللام نقص لفظ واستغناء عن قرينة تَصْرف عن العموم والعهد للجنس.
وخرج بِقَيْد "الشرعي" نحو: عِلمُ الحساب والطب والهندسة وعلوم العربية مِن نحو وتصريف ولغة وبيان وعَرُوض، وغير ذلك.
¬__________
(¬1) المدخل إلى السنن الكبرى (ص 436).
(¬2) ليس في (ز).
يكون التَّرك إنما هو لعدم ذلك، لا لانتفاء العدالة.
وقال القاضي: يكون جرحاً إذا تحقق ارتفاع الدوافع والموانع، وأنه لو كان ثابتاً لَلَزِم العمل به، أما إن لم يتبين قصده إلى مخالفة الخبر فلا يكون جرحاً.
قلتُ: وفي الحقيقة لا يخالف الأول.
وقولي: (فَذَا لِلْمُجْتَهِدْ) أي: راجعٌ إلى رأي المجتهد فيما زاد على أصل العدالة. والله أعلم.
ص:
312 - أَمَّا الْمُرُوءَةُ فَتَرْكُ مَا لَا ... يَلِيقُ بِالْحَالِ إذَا يُبَالَى
313 - نَحْوُ صَغِيرةٍ خَسِيسَةٍ، وَمَا ... يُبَاحُ مِنْ رَذَائِلٍ، فَيَسْلَمَا
314 - كسِرْقَةٍ لِلُقْمَةٍ وَكَلَعِبْ ... بِنَحْوِ شِطْرَنْجَ دَوَامًا يَرْتَكِب
الشرح:
هذا هو الشرط الثاني فيما يُعتبر في الراوي حتى يجب العمل بروايته، ومِثله في الشهادة، وهو أن يكون ذا مروءة. وقد سبق أن المغايرة بينه وبين العدالة هو ما في كُتب أصحابنا الفقهية، وأن ذلك أجود من إدخاله في حد العدالة، وسبق الجواب عن نَص الشافعي الذي يُتوَهم منه خلاف ذلك، وتبعه عليه كثير.
وعلى كل حالٍ المروءة معتبَرة في الراوي والشاهد؛ لأنَّ مَن لا مروءة له، لا يؤمَن أنْ يكذب؛ لأنه لا يَكترث بما يقع منه مما يُعاب عليه.
قال الجوهري: (المروءة: الإنسانية. ولك أن تشدد، أيْ: تترك الهمزة وتشدد الواو. قال أبو زيد: "مَرُؤ الرجُل" صار ذا مروءة، فهو مَرِيٌ، على "فعيل"، وتَمرَّأ: إذا تَكَلَّف
يُقَدَّر لذلك الحرف لمجرور محذوف.
وعكس هذا مذهب ابن طاهر وابن خروف وابن الطَّرَاوة والأبّدي والشلوبين أن "على" اسم دائمًا، وزعموا أنه مذهب سيبويه، ولكن مشهور مذهب البصريين أنها حرف جر في غير ما سبق.
وقد تكون "على" فِعلًا ماضيًا، فتقول: "عَلَا يعلو عُلوًّا"، قال تعالى: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] الأُولى فِعل ماض، والثانية حرف جر كما سبق.
قولي: ("عَلَى" لِلاسْتِعْلَاءِ) مبتدأ وخبر، أي: لفظ " على" لهذه المعاني.
وقولي: (تَجَاوُز) يجوز أن يُقرأ بالرفع خبرًا بعد خبر، وإن كان الخبر الأول جارًّا ومجرورًا.
ويجوز أن يُقرأ بالجر، أي: (وتأتي لتجاوز أيضًا). وحُذِف العاطف كما يقع ذلك كثيًرا في النَّظم، وسبق بيانه مرات.
وأن يُقرأ بالنصب على نزع الخافض بالتقدير المذكور في الجر، وكذا ما بعده.
وقولي: (ظَرْفِيَّةً) بالنصب مفعول مقدم لِـ "تُفِيدُ". والله أعلم.
ص:
494 - وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى التَّرتيبِ ... مَعْنًى، كَذَا ذِكْرًا مَعَ التَّعْقِيبِ
الشرح:
"الفاء" حرف عطف [يفيد] (¬1) الترتيب المعنوي، نحو: جاء زيد فعمرو.
¬__________
(¬1) في (ق، ظ): تفيد.
فإنْ عمم العود، كان التقدير: ومتعوا النساء التي لم يُمسسن ولم يفرض لهن. وإلا فيبقى على إطلاقه.
تنبيهان
الأول: قد تتردد الكلمة بين كونها استثناء أو صفة، فيجري في كل [محمل] (¬1) على حُكمه، وذلك نحو: "غير" فإنها تكون استثناء، نحو: (قام القوم غير زيد)، وصِفة، نحو: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7].
قال الرماني: إذا كانت صفة، لم توجِب شيئًا للاسم الذي بعدها ولم تَنْفِ عنه. فنحو: "جاءني رجُل غير زيد" لم تَنْفِ عن زيد المجيء كما لم تثبته له، بخلاف الاستثناء، فإنه إنْ كان مِن موجِب، نَفَتْ عنه الحكم، أو مِن نفي، أوجبته له. وبينهما فرق آخر، وهو أن الصفة تكون للواحد والجمع، والاستثناء لا يكون إلا مِن جمع أو مما في معناه.
ويجري مَجْرَى "غَيْر" في ذلك "سِوَى" و"مثل" ونحوهما.
ومما يقع صفة واستثناء "إلا" وإن كان الأصل فيها الاستثناء، ومن الوصف قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، لو جُعلت استثناء لَفَسد المعنى. والبحث فيها مشهور في العربية.
الثاني: مما يناسب ما ذكر مِن المتعقب لمتعدد هل يعود للكل؟ أو للأخير؟ ما سبق الإشارة إليه من الحال والظرفين (الزماني والمكاني) والجار والمجرور، وأنَّ إطلاق البيضاوي وغيره يدل على عدم مخالفة أبي حنيفة فيه، وأنَّ في "المحصول" للإمام التصريح بالخلاف
¬__________
(¬1) في (ص): محل. وفي (ش، ق): مجمل.
الإفطار؛ لأنه المناسب، فيحقق المستدِل المناط بأنَّ ذلك الوصف الذي طرحه المعترِض ملائم مؤثِّر؛ فلا يُطرح، فيُقدَّم برجحانه؛ لأنَّ التحقيق يرفع النزاع.
ومن المقيد أيضًا أنْ يمنع كون حُكم الأصل ثابتًا.
كما لو قال شافعي: الخل مائع لا يرفع الحدث؛ فلا يزيل حكم النجاسة، كالدهن.
فيقول الحنفي: لا أُسَلم الحكم في الأصل؛ فإنَّ الدهن عندي مزيل لحكم النجاسة.
وقد اختُلِف في سماع هذا الاعتراض، فنقل عن الشيخ أبي إسحاق أنه لا يُسْمَع ولا يجب على المستدِل ذِكر الدلالة على الحكم، بل له أنْ يقول: إنما قِستُ على أصلي.
وهو بعيد؛ لأنَّ القياس على أصل غير ثابت حُكمه عند الخصم -لا بطريق الاعتبار ولا بطريق الدلالة على عِلته- لا ينتهض دليلًا على الخصم.
نعم، يستقيم ذلك إذا فرّع على مذهب نفسه، لكن لا يتصور في ذلك منع ولا تسليم.
كذا نقل ابن الحاجب وغيرُه ذلك عن الشيخ أبي إسحاق، والموجود في "الملخص" له سماع المنع في ذلك.
ثم إذا قُلنا بسماعه، فهل ينقطع المستدِل بذلك؟ فيه مذاهب:
أصحها: لا؛ لأنه منع مقدمة مِن [جملة] (¬1) مقدمات القياس، فليُمَكَّن من إثباته كسائر المقدمات.
الثاني: نعم؛ لأنه انتقال مِن حُكم الفرع إلى حُكم الأصل.
والثالث: إنْ كان جليًّا يَعرفه أكثر الفقهاء، انقطع، أو خفيًّا لا يَعرفه إلا الخواص فلا. وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق. ونقل ابن برهان في "الأوسط" عنه أنه استثنى مِن الجلي ما
¬__________
(¬1) كذا في (ت)، لكن ليس في (ص، ق، ش). وفي (س): جمل.