(وهو الغاية والفائدة منه).
و"الفنُّ" قال الجوهري: (هو النوع. و"فَننَ الرَّجُل": كَثُرَ تَفَنُّنه في الأمور، أَيْ: تَنَوُّعُه. ومِنه "أَفنت الشَّجَرَة": صارت ذات أفنان، أَيْ: أغصان. وَاحِدُهُ "فَنَن") (¬1).
والمراد هنا فَنُّ "أُصُول الفقه"، فاللام للعهد.
فغايةُ "أصول الفقه" التوصُّل إلى استنباط الأحكام الشرعية، أو معرفة كيف استُنْبِطَت حيث تَعَذَّر إمكان الاستنباط والاجتهاد؛ لِيَسْتَنِد العِلمُ إلى أَصْله، وذلك مُوصلٌ إلى العمل، والعمل مُوصلٌ إلى كُل خير في الدنيا والآخرة، وهو معنى قولي: (يقتضيه العمل). ومعناه هنا: يُعَرِّفه ويَدُل عليه، لا التأثير؛ لحديث: "لن يَدخُل الجنةَ أَحَدٌ بِعَمله" (¬2) إلى آخِره. وإنما الكُلُّ بفضل الله ورحمته، والله أعلم.
ص:
21 - وَمَا اسْتُمِدَّ مِنْهُ فَالْكَلَامُ ... وَعَرَبِيَّةٌ، كَذَا الْأَحْكَامُ
الشرح:
هذا هو الثالث مِن الثلاثة، وهو مادة "أصول الفقه"، فهو مستمد مِن ثلاثة أمور: مِن عِلْم الكلام، ومِن عِلْم العربية، ومن معرفة الأحكام.
ووَجْهُ الحصر الاستقراءُ، وأيضًا:
1 - فالتوقُّف إمَّا أنْ يَكون مِن جهة ثبوت حُجِّيَّة الأدلة، فهو عِلم الكلام، أَيْ: أُصُول
¬__________
(¬1) الصحاح تاج اللغة (6/ 2177).
(¬2) صحيح البخاري (رقم: 5349)، صحيح مسلم (رقم: 2816).
وأشرتُ بقولي: (بِنَحْوِ شِطْرَنْجَ) إلى ما المدار فيه على الحساب والفطنة؛ ليخرج ما هو قمار ونحوه من المحرم كالنرد على الأصح.
نعم، قسم المعصية هل يُخِل بالعدالة؟ أو لا؛ لكونه صغيرة ولا يُخل إلا الإصرار عليها؟ سبق ترجيح الأول والوعد بتقسيم الماوردي فيه وأن الختار خلافه.
والذي قاله الماوردي: (المروءة على ثلاثة أضرب:
ضربٌ شَرطٌ في العدالة. قال: وهو مجانبة ما سَخُف من الكلام المؤدِّي إلى الضحك، وترك ما قبح من الفعل الذي يلهو به أو يُستقبح، فمجانبة ذلك من المروءة المشترطة في العدالة، وارتكابها مفسق.
وضرب لا يكون شرطًا فيها، وهو الإفضال بالمال، والمساعدة بالنفس والجاه.
وضرب مختلف فيه، وهو على ضربين: عادات، وصنائع.
فأما العادات: فهو أن يقتدي فيها بأهل الصيانة دُون أهل البذلة في مأكله وملبسه وتصرفه، فلا يتعرى من ثيابه في بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم، ولا ينزع سراويله في بلد يلبس فيه أهلها السراويلات، ولا يأكل على قوارع الطُّرق، ولا يخرج عن العُرف في مضغه، ولا يغالي بكثرة أكله، ولا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه وحمله بنفسه في بلد يتحاماه أهل الصيانة. وفي اعتبار هذا الضرب من المروءة في شرط العدالة أربعة أَوْجُه:
أحدها: أنه غير معتبَر فيها.
والثاني: أنه معتبر فيها وإن لم يفسق.
والثالث: إن كان قد نشأ عليها من صغره، لم يقدح في عدالته. وإنِ استحدثها في كبره، قدحت.
والرابع: إنِ اختصت بالدِّين، قدحت، كالبول قائمًا وفي الماء الراكد، وكشف عورته إذا
وبهذا يجاب عن استناد السيرافي في منع إفادتها التعقيب بذلك؛ لأنَّا نقول: في هذا تعقيب على الوجه الممكن.
وقال ابن الحاجب: المراد بالتعقيب ما يُعَد في العادة تعقيبًا لا على سبيل المضايقة. قال تعالى: {خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ} [المؤمنون: 14] الآية، مع أنه بين كل أمرين زمان (¬1) جاء مُصَرحًا به في حديث ابن مسعود: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أُمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك" (¬2) الحديث.
وأما ابن مالك فقال: (إن الفاء قد تكون للمهلة، نحو: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]) (¬3).
وجوابه -على الأحسن- أن يجعل للتعقيب بالتقدير السابق.
ووقع في "إيضاح" الفارسي أن "ثم" أشد تَراخيًا من "الفاء"، فأَوهم أن "الفاء" فيها تراخٍ.
فقال ابن أبي الربيع في شرحه: إن مُراده إذا كان الاتصال -أي: التعقيب- فيها مجازيًّا، وحينئذٍ ففيها تراخ بلا شك، لكن تراخي "ثُم" أشد.
وهو تنزيل حسن.
¬__________
(¬1) انظر: أمالي ابن الحاجب (1/ 123).
(¬2) صحيح البخاري (رقم: 3036)، صحيح مسلم (رقم: 2643) واللفظ للبخاري لكن (إِنَ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ .. )
(¬3) شرح التسهيل (3/ 354).
احتمل العود للكل من باب التغليب إلا أنه مجَاز على خلاف الأصل.
قولي: (لَا مَا خَلَفَهْ) أي: لا [للذي] (¬1) بعد المتوسط. فإن المتأخر يخلف المتقدم. والله أعلم.
ص:
643 - الرَّابِعُ: الْغَايَةُ: مَا بِحَرْفِهَا ... خُولِفَ مَا بَعْدُ لِمَا قَبْلُ انْتِهَا
644 - نَحْوُ: وَقَفْتُ ذَا عَلَى بَنَاتِي ... حَتَّى [يَصِرْنَ] (¬2) في الْمُزَوَّجَاتِ
الشرح:
الرابع من أقسام المخصص المتصل: "الغاية"، والمراد بها أَنْ يأتي بعد العام حرف من أحرف الغاية كـ "إلى" و"حتى" و"اللام"، فإن ذلك مُشعِر بمخالفة ما بعد ذلك الحرف لِمَا قَبْله، نحو: (وقفتُ هذا على بناتي حتى يتزوجن) فيقتضي أن مَن تزوجت منهن لا تستحق شيئًا.
والكلام في ذلك في أمور:
أحدها:
غاية الشيء طَرَفه ومنتهاه، وفي معناه قول بعضهم: نهايته ومنقطعه.
ثم يطلق تارةً على الحرف الدال على ذلك، كـ "حتى" و"إلى"، وتارةً على ما دخل عليه ذلك الحرف، كقوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:
¬__________
(¬1) في (ت): الذي.
(¬2) في (ق): تصرن.
سلمنا، ولكن لا نُسلم وجوده في الفرع.
وسيأتي لنا خلاف في إيراد الاعتراضات هذه وغيرها والترتيب فيها.
تنبيه:
إذا توجه المنع على إثبات العلة بشيء مِن طُرقه فوَجْه تَوَجُّه الاعتراض فيما أثبت بطريق النص أن يَدَّعي المعترِض الإجمال في ذلك النص وأنه متردد بين أمرين، إذْ شَرْطه الظهور في المقصود، أو يَدَّعي أنه مُؤَوَّل بدليل آخَر، أو يَدعي القول فيه بالموجَب. ولا يلزم ما ذكره المستدِل.
وإنْ كان النَّص مِن السُّنة فيورد الطعن في سندها ونحوه، حيث توجه له الطعن بأنَّ الحديث مرسَل أو موقوف أو في سنده مَن لا يُقْبَل أو أنَّ بعض شيوخه قال فيمن رواه عنه: لم يَرْوِه عني.
وفي بقية الطُّرق ما سبق في الاعتراضات. والله أعلم.
ص:
878 - كَذَا "اخْتِلَافُ الضَّابِطِ" الْمُعْتَبر ... نَفْيُ وُثُوقِ جَامِعٍ مُصَوَّرِ
الشرح:
من الاعتراضات أيضًا أن يقول المعترِض: إنَّ في قياسك اختلاف الضابط، (أي: بين الأصل والفرع)، فليس ضابط الأصل فيه هو ضابط الفرع، فلا وثوق بما ادَّعَيْته جامعًا بينهما.
مثاله: قولنا في شهادة الزور بالقتل: تسببوا بالشهادة إلى القتل عمدًا، فعليهم القصاص، كالمُكْرَه.