كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

الدِّين؛ فإنَّ حُجية الأدلة تستدعي مَعْرفة الصانع خالِق الخَلْق وباعث الرُّسُل إليهم بالشرائع؛ حتى يُسْتَدَل بما جاءوا به على الأحكام. وثبوت رسالتهم متوقف على المعجزة الدالة على صدقهم، حتى يُعْلَم أنَّ ما جاءوا به مِن عند الله، ويتفرع مِن ذلك ما يُسْتَدَل به في شَرعِنا مِن الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، وما نشأ مِن ذلك عند مُثْبِتِه، وثبوت ذلك إنما هو في أصول الدِّين؛ فحصل التوقف عَلَيه.
2 - وإمَّا أنْ يَكون التوقُّف مِن جهة دلالة الألفاظ على الأحكام؛ إذِ الأدلة هي موضوع أصول الفقه كما سبق، وعوارضُها هي مسائل أصول الفقه، والأصلُ في الأدلة الكتابُ والسُّنةُ، وهُمَا عربيَّان؛ فَتَوقَّفَ فَهْمُهما على معرفة الكلم العربية وأحكامها. فإنْ كان مِن حيث المدلول فهو عِلمُ اللغة، أو مِن أحكام تركُّبها فَعِلمُ النحو، أو مِن أحكام إفرادها فَعِلْمُ التصريف، أو مِن جهة مطابقته لِمُقْتضَى الحال وسلامته مِن التعقيد وتحسينه بشيء مِن وجوه الحُسْن فَعِلْمُ البيان بأنواعه الثلاثة.
3 - وإمَّا أنْ يتوقَّف مِن جهة تَصَوُّر ما يدل بها عليه، وهو الأحكام؛ فإنه لا بُدَّ مِن تَصَوُّر الأحكام؛ لِيُتَمَكَّن مِن إثباتها ونَفْيها؛ فالحُكْم على الشيء فَرعُ تَصَوُّرِه، والله أعلم.
ص:
22 - إذَا عَرَفْتَ مَا مَضَى بِالْجُمْلَهْ ... [فَهاءَ] (¬1) شرْحَ مَا ذَكَرْتُ أَصْلَهْ
23 - العِلْمُ، والدَّلِيلُ، ثُمَّ النَّظَرُ ... والْحُكْمُ بِالتَّفْصِيلِ فِيمَا حَرَّرُوا
الشرح:
أَيْ: إذَا عَرَفْتَ ما قَدَّمْتُه في صَدْر هذه المقَدِّمة إلى هنا، تَبَيَّن لك أنه لا بُدَّ مِن شَرْح أمور
¬__________
(¬1) في (ن 2، ن 5): فهاك. وفي (ن 4): فهذا.
خَلا، وأن يتحدث بمساوئ الناس. وإنِ اختصت بالدنيا، لم يقدح، كالأكل في الطريق، وكشف الرأس بين الناس) (¬1). انتهى ملخصًا.
فائدة:
قال ابن الرفعة في "المطلب" في "كتاب الشهادات": سمعتُ من قاضي القضاة تقي الدين ابن رَزِين أنَّ بعض مَن لَقيه بالشام من المشايخ كان يقول: في تحريم تعاطي المباحات التي تُرَدُّ بها الشهادة ثلاثة أَوْجُه، ثالثها: إنْ تعلقت به شهادة، حرمت، وإلا فلا.
لكن في "النهاية" و"البسيط" الجزم بعدم التحريم مع رد الشهادة. والله أعلم.
ص:
315 - وَالضَّبْطُ أَنْ يَكُونَ لَا مُغَفَّلَا ... وَهْوَ الَّذِي نِسْيَانُهُ قَدْ جَزُلَا
316 - وَأَنْ يَكُونَ حَافِظًا مَرْوِيِّهُ ... إنْ كانَ قَدْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظٍ لَهُ
317 - أَوْ مِنْ كتَابِهِ رَوَى فَضَابِطَا ... لَهُ أَوِ الْمَعْنَى رَوَى، لَا سَاقِطَا
318 - فَعَالِمًا بِمَا يُحِيلُ الْمَعْنَى ... فَذَا يَجُوزُ مُطْلَقًا إذْ يُعْنَى
الشرح:
هذا هو الشرط الثالث فيما يُعتبر في الراوي، ومثله الشاهد أيضًا، وهو أن يكون ضابطًا. فمَن ليس بضابط لكونه مغفلًا [أو] (¬2) كثير النسيان والغلط، لا تُعتبر روايته ولا شهادته. و"المغفل" هو الذي لا يحفظ ولا يضبط.
قال الرافعي: (إلا أن يشهد مفسرًا ويبين وقت التحمل ومكانه، فإنه تزول الريبة عن
¬__________
(¬1) الحاوي الكبير (17/ 150 - 152).
(¬2) ليس في (ص، ض، ش).
تنبيه:
جَعْل التعقيب في "الفاء" العاطفة يقتضي أن "الفاء" المجاب بها الشرط لا تعقيب فيها؛ لأن انعقاد السببية في الشرط والجزاء يُغْني عن ذلك. وقد صرح القاضي في "التقريب" بأن "الفاء" لا تقتضي التعقيب في الأجوبة؛ فرارًا من مذهب المعتزلة في أن الكلام حروف وأصوات، فقالوا في قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]: إن الكلام عندهم القديم هو الكاف والنون، فإذا تعقبه الكائن فإما أن يؤدي إلى قِدم الحادث أو حَدث القديم.
ومن معاني "الفاء" أيضًا السببية، وهو معنى قولي في البيت الآتي: (وَلتَسَبُّبٍ).
مثاله قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الواقعة: 52، 53].
وجعل منه العبدي في "شرح الجُمل" "طلعت الشمس فوجد النهار" وحديث: "فإذا ركع، فاركعوا" (¬1).
لكن السببية قد استُفيدت من كونه جوابًا للشرط ولو لم توجد "الفاء".
واعْلَم أن السهيلي حصر معنى "الفاء" في التعقيب، ورَدَّ الترتيب والسببية إليه؛ لأن الثاني إذا تعقبه، تَرتب عليه وتَسَبب عنه.
قلتُ: وفيه نظر؛ لجواز أن يكون الأول [بعد] (¬2) الثاني مع كونه عقبه، وكَوْن الشيء عقب الشيء لا يَلزم أن يكون متسببًا عنه، وهذا ظاهر. والله أعلم.
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 656)، صحيح مسلم (رقم: 412).
(¬2) في (ص): قبل.
222]، {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، {إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
فإذا قيل: الغاية هل تدخل في المُغيَّا؟ أوْ لا؟
إنْ أريد [بالمعنى] (¬1) الأول وهو طرف الشيء ومنتهاه، فداخلة قطعًا.
وإنْ أريد ما بعد الذي دخل عليه الحرف، فلا خلاف في عدم دخوله وإنْ أوهمه عبارة الإمام الرازي، كما استدركه عليه القرافي.
وإنْ أريد نفس ما دخل عليه حرف الغاية، فهو محل الخلاف المعبَّر عنه بِـ: ما بَعد الغاية هل يدخل فيما قبلها؟ فإن الغاية هنا نفس الحرف، وما دخل عليه هو ما بعد الغاية.
وفي هذه المسألة أقوال:
أحدها: أنه ليس داخلًا في حُكم ما قبلها، بل محكوم عليه بنقيض حُكمه؛ لأنه لو كان ثابتًا فيه، لم يكن الحكم منتهيًا ولا منقطعًا. فلا تكون الغاية غاية، وهو مُحال.
هذا مذهب الشافعي والجمهور كما قاله الإمام في "البرهان".
قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فليس شيء من الليل داخلًا قطعًا.
الثاني: أنه داخل مطلقًا.
والثالث: أنه داخل إنْ كان من الجنس، نحو: (بعتك الرمان إلى هذه الشجرة) والواقع أنها رمانة، وإلا فلا.
قال الروياني في "البحر": إن أبا إسحاق المروزي حكاه عن المبرد.
والرابع: يدخل إنْ لم يكن معه "مِنْ"، بخلاف نحو: (بعتك مِن هذا إلى هذا).
¬__________
(¬1) في (ت، س): بالمغيّى.
فيقول المعترض: الضابط في الفرعِ الشهادةُ، وفي الأصلِ الإكراه؛ فلا يتحقق التساوي بينهما.
وحاصل هذا السؤال يرجع إلى منع وجود عِلة الأصل في الفرع.
وفي "شرح المقترح" لأبي العز حكاية قولين في قبوله، قال: ومدار الكلام فيه ينبني على شيء واحد، وهو أنَّ المعتبَر في القياس القَطعْ بالجامع؟ أو ظن وجود الجامع كاف؟ وينبني على ذلك القياس في الأسباب، فمَن اعتبر القَطعْ، منع القياس فيها؛ إذْ لا يُتصور عادةً القَطعْ بتساوي المصلحتين، فلا يتحقق جامِع بين الوصفين باعتبار يثبت حُكم السببية لكل واحد منهما. ومَن اكتفى بالظن، صحح ذلك؛ إذ يجوز تَساوي المصلحتين، فيتحقق الجامِع، ولا يمتنع القياس.
تنبيه:
إنما لم أذكر مِن القوادح ما ذكره ابن الحاجب وغيرُه: اختلاف جنس [المصلحة] (¬1)؛ اكتفاء باختلاف الضابط؛ لأنَّ تَعدُّد الضابط في الأصل والفرع تارةً يكون مع اتحاد المصلحة وتارةً يكون مع اختلافها، فإذا قدح مع الاتحاد فلأَنْ يقدح مع اختلاف الجنس في التأثير أَوْلى، فإنه يحصل جهتين في التفاوت: جهة في كمية المصلحة ومقدارها، وجهة في إفضاء ضابطها إليها؛ فالتساوي يكون أَبْعَد.
وبالجملة فجواب اعتراض اختلاف الضابط أنْ يُبين أنَّ الجامع هو عموم ما اشترك فيه الضابطان، أو يُبين أنَّ إفضاء الضابط في الفرع إلى المقصود مثل إفضاء ضابط الأصل إليه أو أَرْجح.
¬__________
(¬1) في (ص): الوصفين.

الصفحة 127