أربعة مُهِمة تضمنها ما سبق، وهي: العِلْم، والدليل، والنظر، والحُكْم.
فأمَّا العِلْم فلوقوعه في التعاريف السابقة.
وأمَّا الدليل فلأنه مدلول أصول الفقه الإضافي، ولوقوعه في تعريف اللقبي (حيث كان هو المراد بالطُّرُق) وتعريف الفقه.
وأمَّا النظر فلأنَّ الأحكام إذا كانت مِن أدلتها التفصيلية فإنما يُتَوَصَّل إليها بالنظر.
وأمَّا الحُكْم فلوقوعه في التعاريف، ولِكَوْن تَصَوُّره هو أحد الثلاثة المستمد منها.
فَخُذْ شَرْحَ كُلٍّ منها بالتفصيل والإيضاح إلى آخر المقَدِّمة.
و"هاءَ" اسم فِعْل بمعنى "خُذْ"، و"شَرْح" مفعول به، و"العِلْم" وما بَعْده بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أَيْ: وما ذَكرْتُ أَصْلَه هو العِلم وكذا وكذا، والله أعلم.
العِلْم
24 - فَمُطْلَقُ الْعِلْمِ لَهُ مَعَانِي ... عَلَى اصْطِلَاحاتٍ لَها مُعَانِي (¬1)
25 - أَحَدُهَا: مُجَرَّدُ الْإدْرَاكِ ... وَلَوْ مَعَ احْتِمَالِ ضِدٍّ زَاكِي (¬2)
26 - أَوْ مُسْتَوٍ، وَكُلُّ هذَا مُنْقَسِمْ ... إلى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ فُهِمْ
27 - فَأَوَّلٌ حُصُولُ صُورَةٍ بِلَا ... حُكْمٍ، وثانٍ مَعَ حُكْمٍ حُصِّلَا
28 - إثباتًا اوْ نَفْيًا، وكُلُّ مَا دُرِيْ ... إمَّا ضَرُورِيٌّ وَإمَّا نَظَرِيْ
29 - فَمَا عَلَى مِثْلٍ لَهُ تَوَقَّفَا ... فالنَّظَرِيُّ فِيهِمَا، وَمَا انْتَفَى
¬__________
(¬1) قال البرماوي في الشرح: (اسم فاعل "عَانَا الشيءَ" أَيْ: لَزِمَه وأَلِفَه). كذا "عَانَا" في كل النُّسَخ.
(¬2) أَيْ: راجِح أو مُستوٍ.
شهادته، وتُقبل) (¬1). انتهى
والرواية كذلك.
وأما مَن لم يكثر نسيانه وغلطه بل كان يسيرًا فلا يقدح في شهادته ولا روايته؛ لأنَّ ذلك لا يَسلم منه أحد.
وجعل ابن الصلاح وغيره من الضبط أنه إنْ حدَّث مِن حفظه فيكون حافظًا مَرْوِّيه، أو حَدَّث من كتابه فيكون حاويًا له، حافِظَهُ من التبديل والتغيير، هذا إذا كان يروي باللفظ.
أمَّا إذا كان يروي بالمعنى فشرطه أن يكون عالمًا بما يحيل المعنى، وإلَّا فقد يَظن أنه معناه وهو ليس كذلك.
وقد نَص الشافعي رحمه الله في "الرسالة" على ذلك كله، فقال: (لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا، منها:
أنْ يكون مَن حَدَّث به ثقة في دِينه معروفًا بالصدق في حديثه، عاقلًا لِمَا يُحَدِّث به، عالِمًا بما يُحِيل معاني الحديث من اللفظ.
أو يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه، لا يُحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدَّث به على المعنى -وهو غير عالم بما يُحيل معناه- لم يَدْرِ لَعلَّه يحيل الحلال إلى الحرام أو الحرام إلى الحلال. وإذا أدَّاه بحروفه، فلم يَبْقَ فيه وَجْه يخالف فيه إحالته الحديث.
حافظًا إن حدَّث مِن حِفظه، حافظًا لكتابه إنْ حدَّث مِن كتابه. إذا شَرِكَ أهل الحفظ في الحديث، وافق حديثهم.
[بَرِئَ] (¬2) مِن أن يكون: مدلِّسًا يُحدِّث عمن لَقِي ما لم يَسمع منه، ويُحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
¬__________
(¬1) العزيز شرح الوجيز (13/ 32).
(¬2) كذا في (ز). وفي سائر النُّسخ: بريًّا.
ص:
495 - وَلتَسَبُّبٍ، وَ "في" لِلظَّرْفِ ... مَكَانًا اوْ وَقْتًا لِهَذَا الْحَرْفِ
496 - وَالصُّحْبة، التَّعْلِيلِ، وَاسْتِعْلَاءِ ... وَأَكَّدُوا بِهَا [لَدَى] (¬1) الْإعْلَاءِ
497 - وَعِوَضًا تَأْتِي، وَمَعْنَى "الْبَاءِ" ... وَ"مِنْ، إلَى" [تُعْطَى] (¬2) بِلَا امْتِرَاءِ
الشرح:
قولي (وَلتَسَبُّبٍ) من تمام معاني "الفاء" كما سبق.
وأما "في " فَلَها مَعانٍ:
أحدها: الظرفية، مكانية أو زمانية، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2 - 4].
والمراد أن يكون شيء محلًّا لشيء:
حقيقةً كان كما مَثلنا، لأن الأجسام قابلة للحلول.
أو مجازًا، نحو: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى: 8] جعلت الرحمة كالجسم المحيط بالمؤمن. ونحو: "النجاة في الصدق"، جعل العرضان كجسمين حل أحدهما في الآخر.
فلو قال: (أنت طالق اليوم وفي الغد وفيما بعد الغد)، قال المتولي: يقع عليها في كل يوم طلقة، لأن الظرف لا بُدَّ له من مظروف.
¬__________
(¬1) في ص، ن 1، ن 2: لَدَى. في ض: لدا. في ت: لدى. في ش: لذي. في ن 3: لَذَا.
(¬2) كذا في (ص). وفي (ظ، ق، ت) أولها ياء، وفي (ن 1، ن 3، ن 5): تعطِي.
والخامس: لا يدخل إنِ اقترن بـ "مِن". وإنْ لم يقترن بها فجاز أن يكون تحديدًا وأنْ يكون بمعنى"مع".
قال الإمام في "البرهان": إنه مذهب سيبويه.
وأنكره ابن خروف عليه، وقال: إن سيبويه لم يَقُل شيئًا من ذلك.
ثم ذكر عن سيبويه خِلاف ما فهم الإمام عنه.
والسادس: قال الإمام: (وهو الأَوْلى): إنْ تميز عما قبله بالحس مثل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، كان حُكم ما بعدها خلاف ما قبلها. وإنْ لم يتميز حسًّا، استمر ذلك الحكم على ما بعدها، مثل: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، فإنَّ المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس.
والسابع (وبه قال بعض الحنفية): إنْ كان المُغيَّا عينًا أو وقتًا فلا يدخل، وإنْ كان غيرهما، دخل، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]؛ لأن الغاية هنا فِعل، والفعل لا يدخل بنفسه ما لم يفعل. وما لم توجد الغاية لا ينتهي المغيَّا، فلا بُدَّ من وجود الفعل الذي هو غاية للنهي؛ لانتهاء النهي، فيبقى الفعل داخلًا في النهي.
الأمر الثاني:
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (إن قول الأصوليين: "إن الغاية من جملة المخصصات" إنما هو فيما إذا تَقدمها عموم يشملها لو لم يؤت بها، كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، فلولا الغاية لقاتلْنا الكفار أعطوا أو لم يعطوا. فأما نحو: "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" (¬1) لو سكت عن الغاية، لم
¬__________
(¬1) سبق تخريجه.
أما لو بَيَّن إلغاء التفاوت في الصورتين فإنه لا يفيد، كما لو ألغى التفاوت بين قطع الأنملة إذا سرى إلى النفس وقطع الرقبة في وجوب القصاص بحفظ النسب وإنْ كان قطع الرقبة أشد إفضاءً. فإنما لم يُفدْه ذلك؛ لأنه لا يَلزم مِن إلغاء تَفاوُت القاتل إلغاء كل تفاوت. والله أعلم.
ص:
879 - جَوَابُ كُلِّهَا بيانُ ضِدِّهِ ... بِحُجَّةٍ قَامَتْ لَهُ بِقَصْدِهِ
الشرح:
أي: كل ما ذكرناه من القوادح يكون جواب المستدِل فيه بإثبات ضد ما قاله المعترِض، ويقيم الدليل على ما يثبته مِن ذلك بحيث يحصل له قصده وينفي ما قاله المعترِض.
وقد بينتُ في الشرح فيما سبق جواب كل واحد واحد على التفصيل.
والجميع راجع إلى ما ذكرته هنا في النَّظم، فإنَّ كل واحد فيه إثبات ضد الاعتراض بشرط إقامة حجته عليه. والله أعلم.
فائدة:
880 - مِنَ السُّؤَالَاتِ الَّتِي تَعُمُّ ... سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ، ذَا أَهَمُّ
881 - بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ ذَا غَرَابَهْ ... أَوْ مُجْمَلًا؛ لِطَلَبِ الْإجَابَهْ
الشرح:
لَمَّا انتهى القول في السؤالات المتعلقة بالقياس وكان كثير منها يجري في غير القياس كما سبق، بيَّنا هنا أنَّ مِن الأسئلة التي هي عامة في القياس وغيره سؤال الاستفسار، وهو الذي