كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

30 - عَنْ عِلْمِهِ التَّوَقُّفُ المُعَيَّنُ ... هُوَ الضَّرُورِيُّ، فَلَا يُبَرْهَنُ
الشرح:
هذا هو الأول مِن الأربعة التي لا بُدَّ مِن شرحها وإيضاحها، وهو العِلم، وله إطلاقات في اللغة والعُرْف، وهو معنى قولي: (عَلَى اصْطِلَاحات). فإنه يشمل اللغة والعُرْف؛ إذِ المراد هنا اصطلاح التخاطب، لا المقابِلُ لِلُّغة والشرع كما سيأتي. وقد ذَكرتُ منها ثلاثةً يحتمل أنْ يَكون حقيقةً في كُل منها، أو حقيقةً في البعضِ مَجَازًا في الباقي، أو لِقَدْر مشترك؛ مِن باب التواطؤ. وتحريرُ ذلك عَسِرٌ، ولا طائل في بَسْطه في هذا المختصر.
وقولي: (لها مُعَاني) هو - بِضَم الميم - اسم فاعل "عَانَا الشيءَ" أَيْ: لَزِمَه وأَلِفَه.
وقولي: (مُطْلَقُ العِلْمِ) أَيْ: لَفْظُهُ المُطْلَقُ السالم مِن قَيْدٍ ومِن قرينةٍ.
أَحَدُ المعاني الثلاثة: مُجَرَّد الإدراك، وبدأتُ به لأنه الأَعَم، سواء أَكان ذلك الإدراك جازِمًا أو مع احتمال خِلَافِه، رَجحَ ذلك الاحتمال أو ضَعُفَ أو ساوَى.
ولَمَّا كان الراجح والمساوي يَبْعُد معهما أنْ يُقال: (عَلِمَ الشيءَ) أتَيْتُ بهما بَعْد "لو" في قولي: (وَلَوْ مَعَ احْتِمَالِ ضِدٍّ زَاكِي)، أَيْ: راجِح أو مُستوٍ. وأمَّا عند الجَزْم أو الرجحان في الأول فواضح، ومن هذا قوله تعالى: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51]؛ إذِ المراد نَفْيُ كل إدراكٍ ولو تَوَهُّمًا.
وقولي: (وَكُلُّ هذَا مُنْقَسِمْ) إلى آخِره - بيان لأقسام "العِلْم" بهذا المعنى العام.
ويَنْبَغِي أنْ نُقَدِّم على هذا التقسيم أَمْرَيْن:
أحدهما: قد اختُلِف في "العِلْم" هل تَصَوُّره ضروري؟ أو نَظَرِي؟ ذهب الإمام الرازي
بما يحدث الثقات خلافه.
ويكون هكذا مَن فوقه ممن حدَّثه حتى ينتهي بالحديث موصولًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى مَن انتهى به إليه دُونه؛ لأنَّ كل واحدٍ مُثْبتٌ مَن حدَّثه و [مُثبتٌ] (¬1) على مَن حَدَّث عنه، فلا يُستغنَى في كل واحد منهم عما وصفتُ) (¬2). انتهى نَصُّه.
وهو يشتمل على فوائد كثيرة، منها ما سبق، ومنها ما سيأتي وننبه على معنى كلامه فيه في موضعه.
قولي: (نِسْيَانُهُ قَدْ جَزُلَا) أيْ: كثر.
وقولي: (أَوْ مِنْ كِتَابِهِ رَوَى فَضابِطَا) أي: فيكون ضابطًا، دل عليه ما سبق في قولي: (وَأَنْ يَكُونَ حَافِظًا مَرْوِّيهُ) وقولي: (أَوِ الْمَعْنَى رَوَى، لَا سَاقِطَا) أي: أو يكون روى المعنى ولم يرو اللفظ حال كوْن ذلك المعنى بتمامه موجودًا لا ساقطاً بأن سقط منه شيء.
وقولي: (فَذَا يَجُوزُ مُطْلَقًا إذْ يُعْنَى) استطراد لمسألة الرواية بالمعنى هل هي جائزة؟ أو لا؟ وتمامه قولي بعده:
ص:
319 - وَإنْ يَكُنْ لَمْ يَنْسَ أَوْ بِغَير ... مُرَادِفٍ؛ بِالْأَمْنِ مِنْ تَغْيِر
الشرح: والحاصل أنَّ في المسألة مذاهب:
جواز الرواية بالمعنى مطلقًا، وهو قول الأئمة الأربعة سوى ما نذكره من النقل عن مالك، فالنقل عنه مضطرب، وبالجواز أيضًا قال الحسن البصري وأكثر السلف وجمهور
¬__________
(¬1) كذا في (ق، ش) و"الرسالة، ص 372" بتحقيق: أحمد شاكر. وفي سائر النُّسخ: يثبت.
(¬2) الرسالة (ص 370).
قال الرافعي: (وليس هذا الوجه بواضح؛ إذ يجوز أن يختلف الظرف ويتحد المظروف) (¬1).
الثاني: المصاحبة، نحو: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79].
الثالث: التعليل، نحو: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68].
الرابع: الاستعلاء، نحو: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71].
وقيل: إنما هي هنا للظرفية المجازية، فكأنه لَمَّا قصد المبالغة في الاستقرار جعل ظرفًا له. قال الزمخشري في "المفصل": (لِتَمَكُّن المصلوب في الجذع تَمَكُّن الكائن في الظرف فيه) (¬2).
الخامس: التوكيد، نحو: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41].
السادس: التعويض، وهي الزائدة عوضًا من أخرى، نحو: "ضربت فيمن رغبت"، أي: فيه. كذا نقله ابن هشام في "المغني" عن ابن مالك، قال: (وذلك لأن الأصل "ضربت من رغبت فيه"، فحذف "في" بعد رغبت وزادها بعد "ضرب"، وأنه قاس ذلك على "الباء" في قوله: "انظر بمن تثق". أي: انظر مَن تثق به).
ثم قال: (وفيه نظر) (¬3).
السابع: معنى "الباء"، كقوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11]، أي: يلزمكم به.
الثامن: معنى "إلى"، كقوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9]، أي: إلى
¬__________
(¬1) العزيز شرح الوجيز (9/ 69).
(¬2) المفصل في صنعة الإعراب (ص 381).
(¬3) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (2/ 520).
يكن الصبي شاملًا للبالغ، ولا النائم للمستيقظ، ولا المجنون للمفيق، فذِكر الغاية في ذلك إما تأكيد لتقرير أن أزمنة الصِّبَا وأزمنة الجنون وأزمنة النوم لا يستثنى منها شيء، ونحوه: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] طلوعه أو زمن طلوعه ليس مِن الليل حتى يشمله {سَلَامٌ هِيَ} [القدر: 5] بل حقق به ذلك.
وإما للإشعار بأنَّ ما بعد الغاية حُكمه مخالِف لما قبله، ولولا الغاية لكان مسكوتًا عن ذِكر الحكم محتملًا. وهذا على رأي مَن يقول بالمفهوم (¬1).
قال الشيخ: (وهذا وإنْ قيل به في نحو: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فهو أقوى من القول به هنا؛ لأن هناك لو لم يَقُل به، لم تكن للغاية فائدة، وهنا فائدتها المذكورة أولًا فيما سبق. نعم، قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يحتمل أنه مثل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}؛ نظرًا إلى أن الصوم الشرعي مختص بالنهار، وأيضًا فالعموم في الصيام إنما هو في أفراد الصوم، لا لأوقاته) (¬2).
قلتُ: وما ذكره الشيخ إنما هو في تحقيق فائدة الغاية فيما وردت فيه مما يشملها وما لا يشملها ولو لم يكن المذكور قبل الغاية عامًّا عمومًا استغراقيًّا؛ ولهذا جعل منه {سَلَامٌ هِيَ} وليس في "هي" عموم استغراقي. فإنْ كان عموم استغراقي، كان التخصيص موجودًا فيه مِن حيث ما قصد مِن العموم ومن حيث العموم الاستغراقي الذي هو محل الكلام في المسألة. [فإنْ] (¬3) لم يكن فيه عموم استغراقي، انصرف البحث إلى عمومٍ ما وعدمه. فمراد الشيخ الأعم منهما، فتأمله.
¬__________
(¬1) الإبهاج (2/ 161 - 162).
(¬2) الإبهاج (2/ 161 - 162).
(¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): وإن.
بدأ به ابن الحاجب الاعتراضات؛ لأنه المتقدم على كل اعتراض. وهو: طلب معنى اللفظ؛ إما لإجمال - كالقرء - أو غرابة.
كما إذا قال في الكلب الذي لم يعلم: خِراش لم يُبْل؛ فلا يطلق فريسته، كالسيد.
فَـ "الخراش" بكسر الخاء المعجمة وقبل الألف راء وبعدها شين معجمة هو الكلب. ومعنى (لم يبل): لم يختبر.
قال الجوهري: (بلاه الله وأبلاه الله بلاء حسنًا، وابتلاه: اختبره) (¬1).
والفريسة. الصيد، مِن "فرس الأسد فريسته": إذا دقَّ عنقها. ثم كَثُر حتى أُطلِق على كل قتل "فرسًا". والسيد: الذئب.
وقولي: (لِطَلَبِ الْإجَابَهْ) أي: يدَّعي المعترِض ذلك؛ ليطلب إجابة المستدِل عنه. لكن "بيان كونه مجملًا أو غريبًا حتى يحتاج إلى التفسير" على المعترِض على الأصح؛ لأنَّ الأصل عدم الإجمال وعدم الغرابة، فيُبَيِّن أن اللفظ لمتعددٍ، ولا يُكَلَّف بيان التساوي لِغيره. فإنْ قال: (إنَّ الأصل عدم رجحان بعضها) فهو جيد، ويكون ذلك تبرعًا مِن المعترِض.
نعم، "بيان أنه ليس بمجمل ولا غريب" على المستدِل؛ لأنَّ شرط الدلالة على المراد عدم إجماله أو غرابته، وبيان شَرْط الدليل على المستدِل.
وجواب هذا الاعتراض بضد ما اذُعِي كما سبق في جواب الأسئلة المذكورة من قبل، وكما أشعر به قولي هنا: (لِطَلَبِ الْإجَابَهْ).
فيقول المستدِل في جوابه: هذا ظاهر في مقصودي. ويبين ذلك:
- إما بنقل مِن اللغة، كما إذا اعترضه في قوله: (الوضوء قُربة؛ فتجب فيه النية) بقوله:
¬__________
(¬1) الصحاح (6/ 2285).

الصفحة 129