إلى أنه ضروري لا يحتاج [لِتَعْرِيف] (¬1)، وكأنَّ مراده "العِلْم" بهذا المعنى الأَعَم، لا بالمعنى الثالث الذي هو أخَصُّ هذه الثلاثة؛ فإنه قد عَرَّفَ ذلك في ضِمْن تقسيم كما سيأتي؛ فَنِسْبَتُه إلى المناقَضَة ليس بِجَيِّد.
وقال إمامُ الحرمين: إنَّ "العِلْم" لا يُحَدُّ؛ لِعُسْره، لا لِكَوْنه ضروريًّا؛ فإنه قد اخْتُلِفَ في حقيقته: أَهُو جوهَر؟ أمْ عَرَض؟ وعَلَى أنه عَرَضٌ: أَهُوَ مِن مَقُولة الكيف ولكنه وصفٌ حقيقي تَلْزَمُه الإضافة؟ أمْ هو مِن مَقُولة الإضافة؟ أَمْ هو مِن مقولة الانفعال، لا الفعل؟
وإذَا لَمْ تتميز ذاتياته عن عَرَضياته، عَسُرَ تحديده؛ فلا طريق لتعريفه، إلَّا إنْ تَمَيَّز عن غَيْره بالقسمة بِأَنْ يُؤْخَذ المشتركُ بَيْنه وبَيْن غَيْره ثُمَّ يُؤخَذ المُمَيَّزُ؛ حتى يَخْرُج لنا "العِلْم".
قلتُ: فَعَاد إلى تعريفه بالرَّسْم، وتَبَيَّن أنه إنما أراد عُسْر التعريف بالحَدِّ.
نَعَم، ظاهر كلام الإمام والغزالي في "المستصفَى" وغيرهما مِن المحققين أنَّ الخلافَ المذكور إنما هو في "العِلْم" بالمعنى الذي يأتي في ثالث الإطلاقات وإنْ زَعَمَ بعضُهم أنَّ المذكور هنا هو مَحَل الخلاف، وليس تحت هذا الخلاف كبيرُ فائدة؛ فلا حاجة للتطويل فيه.
الثاني: أنَّ مُجَرَّد الإدراك الذي قُلناه - يشارك "العِلْم" فيه ألفاظ تُظَنُّ مترادفة لكنها لِمعانٍ تتميَّز بقيود لا ينبغي أنْ يَخْلُوَ مُرِيدُ العِلم مِن معرفتها؛ لكثرة دَورها في الكلام، فَلنَذْكُرها مختصرة:
فَمِن ذلك: الشُّعور، وهو أول مراتب وصول العِلْم إلى القوة العاقلة. مأخوذ مِن الشعار، وهو ما يَلي الجسد؛ ولهذا كان وَصْف الكفار [بأنهم لا يشعرون] (¬2) أَبْلَغ مِن نَفْي العِلم ونحوه عنهم.
¬__________
(¬1) في (ش): إلى تعريف.
(¬2) ليس في (ش).
الفقهاء والمتكلمين، لكن بشروط:
أحدها: أن يكون الراوي عارفًا بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها، وهو معنى قول الشافعي في "الرسالة" فيما سبق ذِكره: أن يكون عالِمًا بما يُحيل المعنى.
وفي "مختصر المزني": قال الشافعي: (الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدقة الغنم معنى ما أذكره إن شاء الله تعالى) (¬1). ثم سرده.
قال الأصحاب: كان الشافعي لم يحضره حينئذ اللفظ فذكره بمعناه؛ لأنه عارف بما يُحيل المعنى وهو يُجَوِّزه للعارف؛ ليكون مساويًا للأصل بلا زيادة ولا نقص، فغَيْر العارف قد يخالِف وإن لم يقصد، فيمتنع روايته بالمعنى بالإجماع كما في "تقريب" القاضي.
ثانيها: أن لا يكون مُتَعَبَّدًا بلفظه، كالقرآن قطعًا وإنْ نقل عن أبي حنيفة في ترجمة الفاتحة بغير العربية ما سنذكره في فوائد الخلاف، وكالتشهد، فلا يجوز نقل ألفاظه بالمعنى اتفاقًا كما نقله إلْكِيا والغزالي، وأشار إليه ابن برهان وابن فورك وغيرهما.
ثالثها: أن لا يكون من باب المتشابه؛ ليقع الإيمان بلفظه من غير تأويل أو بتأويل على المذهبين المشهورين، فروايته بالمعنى تؤدي إلى الخلل على الرأيين.
رابعها: أن لا يكون من جوامع الكلم.
كقوله عليه الصلاة والسلام: "الخراج بالضمان" (¬2)، و"البينة على المدَّعِي" (¬3)، و"العجماء
¬__________
(¬1) مختصر المزني (ص 41).
(¬2) سنن أبي داود (رقم: 3508)، سنن الترمذي (رقم: 1285)، سنن ابن ماجه (رقم: 2243). قال الألباني: حسن. (صحيح سنن أبي داود: 3508).
(¬3) سنن الترمذي (رقم: 1341)، السنن الكبرى للبيهقي (16222). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1341).
أفواههم.
التاسع: معنى "من"، كقول امرئ القيس:
وهل يعمن مَن كان أحدث عَهْده ... ثلاثين شهرًا في ثلاثة أحوال
أي: من ثلاثة أحوال. والله أعلم.
ص:
498 - وَ"كُلٌّ" اسْمٌ شَامِلٌ أَفْرَادَا ... مُنكَّرٍ، أَوْ مَا لِجَمْعٍ عَادَا
499 - مُعَرَّفًا، وَ [مُفْرَدًا] (¬1) إنْ عُرِّفَا ... أَجْزَاؤُهُ، وَ"اللَّامُ" تَعْلِيلًا وَفَى
الشرح:
من الكلمات المحتاج إلى تفسيرها "كل"، وهو اسم واجب الإضافة، فما يضاف إليه إنْ كان مفردًا نكرة فهي لشمول أفراده، نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. وإن كان لجمع مُعَرَّف نحو: "كل الرجال" فكذلك، وإنْ كان لمفرد معرفة فهي لشمول الأجزاء، نحو: "اشتريت كل الدار وكل العبد".
ولا خلاف في ذلك إلا في الحالة الثانية، فإن فيها احتمالين للشيخ تقي الدين السبكي في أن الألف واللام هل أفادت العموم و"كُل" تأكيد لها؟ أو هي لبيان الحقيقة و"كُل " تأسيس؟
ثم قال: ويمكن أن يُقال: إنَّ الألف واللام تفيد العموم في مراتب ما دخلت عليه، و"كُل" تفيد العموم في أجزاء كل من تلك المراتب. فإذا قلت: "كل الرجال" أفادت الألف واللام استغراق كل مرتبة من مراتب جميع الرجال، وأفادت "كل" استغراق الآحاد كما قيل
¬__________
(¬1) كذا في (ن 1، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ص): مفردٌ.
الأمر الثالث:
قال الشيخ تقي الدين أيضًا: (إطلاق كون "الغاية" من المخصصات لا بُدَّ فيه مِن إخراج ما سبق في حديث: "رفع القلم"، و {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] و {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ونحوه مما لا يكون شاملًا لِمَا بعد الغاية. وإخراج نحو: "قطعت أصابعه من الخنصر إلى الإبهام"، فإنَّ الغاية فيه داخلة قطعًا، فهو تأكيد وتحقيق للعموم) (¬1).
كما سبق من الفائدة الأولى في مثل ذلك.
نعم، لو كان اللفظ غير صريح نحو: (ضربت القوم حتى زيدًا)، كان تأكيدًا [بالظهور] (¬2)، لا بالقطع، لاحتمال أنه أراد أن الضرب انتهى إليه ولم يشمله.
الرابع:
الأصل في مقصود الغاية أن المُغَيَّا بالتدريج إلى أن يصل لها، نحو: سِرت من البصرة إلى الكوفة. وحينئذٍ فقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] مع أنه بَعد صِدق غسل اليد لا تدريج ينتهي إلى المرافق إنما ينتظم فيه ذلك لو قيل: اغسلوا إلى المرافق.
قال بعض الحنفية: فيتعين أن يكون في الآية المغيَّا غير الغسل، والتقدير: واتركوا من إباطكم إلى المرافق، لأنَّ غسل اليد إنما يحصل بعد الوصول إلى الإبط، فليس ثابتًا قبل المرفق، فإنَّ الترك متدرج من حين ابتداء الغسل إلى الوصول فيه إلى المرافق. وفي هذا الموضع قد تعارَض الإضمار (وهو تقدير "اتركوا") والمجاز (وهو إطلاق اليد على بعضها)،
¬__________
(¬1) الإبهاج (2/ 163).
(¬2) في (ص، ق): للظهور.
الوضوء يُطلق على النظافة وعلى الأفعال المخصوصة، فما الذي تريد بالذي تجب فيه النية؟ فيقول: حقيقته الشرعية الأفعال المخصوصة.
- أو مِن العُرف، كالدابة.
- أو يقول: ظاهر بقرينة معه، مثل قوله: (قُرء تحرم فيه الصلاة؛ فيحرم الصوم). فقرينة تحريم الصلاة فيه تدل على أن المراد به الحيض.
وفي الغرابة مثل: (ظلمة زوجت نفسها؛ فلا يصح). فالظُّلمة: المرأة؛ بدليل قوله: (زوجت نفسها).
- أو بتفسير مقصوده، بأنْ يقول: مرادي المعنى الفلاني. لكن لا بُدَّ أنْ يفسره بما يحتمله اللفظ وإنْ بَعُد، كما يقول: (يخرج في الفطرة التَّور). ويفسره بالقطعة مِن الأقط.
فلو قال المستدِل: (هو غير ظاهر في غير مرادي باتفاق مني ومنك؛ فيكون ظاهرًا في مرادي؛ لئلا يَلزم الإجمال).
فمنهم مَن ردَّه؛ لرجوعه إلى قوله: (إنَّ الأصل عدم الإجمال) والفرض أنَّ المعترِض يُبين أنه مجمل.
وأيضًا: فلا يَلزم مِن عدم ظهورِه في الآخَر ظهورُه في مقصوده؛ لجواز عدم الظهور فيهما جميعًا.
وصَوَّبه بعضهم؛ دَفْعًا لمحذور الإجمال، وذلك حيث لا يكون اللفظ مشهورًا بالإجمال. أما إذا اشتهر بالإجمال - كالعين والقرء والجون - فلا يصح فيه دَعْوَى الظهور أصلًا.
أما إذا فسره بما لا يحتمل، فلعب؛ فلا يُسمع؛ لأنَّ غايته أنه نطق بِلُغَةٍ غير معروفةٍ.