ثانيها: الإدراك الذي سبق ذِكْرُه، وهو وصول المعقول إلى العقل، مأخوذٌ مِن "أَدْرَكْتُ الشيءَ": وَصَلْتُ إليه.
ثالثها: التَّصَوُّر، وهو حصول الصورة في العقل، كما سيأتي.
رابعها: الحفظ، وهو تَأَكُّد المعقول في العقل، واستحكامُه.
خامسها: التَّذَكُّر، وهو محاولة القوة استرجاع ما زال مِن المعلومات.
سادسها: الذِّكْر، وهو فائدة التذَكُّر، وهو رجوع الصورة المطلوبة إلى الذِّهْن. ويقال بضم الذال وكسرها. قال ابن سِيدَه: (هو ضِد النسيان) (¬1). وزَعَم ابنُ جنِّي أنه بِالكَسْر: بِاللسان، وبِالضَمِّ: بالقلب. وكأنَّ هذا باعتبار الأكثر في الاستعمال.
سابعها: الفَهْمُ، وهو متعلِّق بِلَفْظِ مَن يُخَاطِبُك في الغالب.
ثامنها: الفقه، وقد سَبق.
تاسعها: الدِّراية، وهي المعرفة الحاصلة بَعْد تَرَوٍّ ومقدماتٍ.
عاشرها: اليقين، وهو أنْ يَعْلَم [الشيءَ] (¬2)، لا يَتَخَيَّلُ خِلَافَه.
الحادي عشر: الذهنُ، وهو قوةُ النَّفْس واستعدادُها لِكَسْب العلوم غَيْرِ الحاصلة.
الثاني عشر: الفِكْر، وهو الانتقال مِن الأمور الحاضرة إلى الأمور المُحْضَرَة، كما سيأتي بيانه [في "النَّظَر"] (¬3).
الثالث عشر: الحَدْسُ، وهو الذي يتميَّزُ به عَملُ الفِكْر، وهو استعداد النفْس بوجود
¬__________
(¬1) المحكم والمحيط الأعظم (8/ 581).
(¬2) في (ش): الذي.
(¬3) ليس في (ش).
جبار" (¬1)، و"لا ضرر ولا ضرار" (¬2)، و"لا ينتطح فيها عنزان" (¬3)، و"حمى الوطيس" (¬4)، وغير ذلك مما لا ينحصر.
ونقل بعض الحنفية فيه خلافًا عن بعض مشايخهم.
خامسها: أن لا يكون من مصنفات الناس. فإنْ كان منها، فلا يجوز قطعًا.
قال ابن الصلاح: (وهذا الخلاف لا نراه جاريًا ولا أجراه الناس فيما نَعْلم فيما تضمنته بطُون الكتب، فليس لأحد أن يُغَير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت فيه بدله لفظًا آخَر بمعناه، فإنَّ الرواية بالمعنى رَخَّص فيها مَن رَخَّص لِمَا كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحَرَج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطُون الأوراق والكتب، ولأنه إنْ ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غَيْره) (¬5). انتهى
وقد تعقب عليه ابن دقيق العيد في ذلك بأنه ضعيف، قال: (وأقَل ما فيه أنه يقتضي تجويز هذا فيما ينقل من المصنفات في أجزائنا وتخاريجنا، فمنه ليس فيه تغيير المصَنَّف).
قال: (وليس هذا جاريًا على الاصطلاح، فإنَّ الاصطلاح على أن لا تُغير الألفاظ بعد الانتهاء إلى الكتب المصنفة، سواء رويناها فيها أو نقلناها منها). انتهى
قال بعض شيوخنا: ولقائل أن يقول: لا نُسَلم أنه يقتضي جواز التغيير فيما نقلناه إلى
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 1428)، صحيح مسلم (رقم: 1710) واللفظ للبخاري.
(¬2) مسند أحمد (2867)، سنن ابن ماجه (رقم: 2340)، مستدرك الحاكم (2345) وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن ابن ماجه: 1909).
(¬3) مسند الشهاب (رقم: 857). قال الألباني: موضوع. (السلسلة الضعيفة: 6013).
(¬4) صحيح مسلم (رقم: 1775).
(¬5) مقدمة ابن الصلاح (ص 214).
في أجزاء العشرة، فيصير لكل منهما معنى، وهو أوْلى من التأكيد.
قال: (ومن هنا يُعلم أنها لا تدخل على المفرد المعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم، وقد نَص عليه ابن السراج في "الأصول") (¬1). انتهى
وتعقب عليه بعض شيوخنا بأنه لِمَ لا يجوز أن تكون "كل" مؤكدة كما هو أحد الاحتمالين السابقين عنده في المعرف المجموع؟ ويمكن الفرق.
فائدة:
جعل بعضهم من دخولها على المفرد المعرَّف قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل الطلاق واقع إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله" (¬2). رواه الترمذي.
واستُشكل بأنه لشمول الجزئيات.
وجوابه أنه لَمَّا أريد الجنس كان بمنزلة المجموع المعرَّف، كما في حديث: "كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها" (¬3). والله أعلم.
وقولي: (وَ"اللَّامُ" تَعْلِيلًا وَفَى) تمامه قولي بعده:
ص:
500 - كذَاكَ الِاخْتِصَاصُ وَاسْتِحْقَاقُ ... مِلْكٌ وَعُقْبَى لَهُمَا إطْلَاقُ
¬__________
(¬1) الإبهاج (2/ 96).
(¬2) سنن الترمذي (رقم: 1191) بلفظ: (كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ على عَقْلِهِ). قال الألباني: ضعيف. (إرواء الغليل: 2042).
(¬3) صحيح مسلم (رقم: 223).
والإضمار خير.
وهذا البحث يجري أيضًا في نحو: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، فإنه يقتضي تكرر أيام الصوم وتدرجه إلى الليل، فتشكل الغاية. وإنما تظهر لو قال: صوموا إلى الليل.
وقال القرافي: (إن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أجاب عنه بأن المراد: أتموا كل جزء من أجزاء الصوم بسننه وفضائله وكرروا ذلك إلى الليل. فالكمال في الصوم قد يحصل في جزء دُون جزء من جهة اجتناب الكذب والغيبة والنميمة ونحو ذلك مما يأباه الصوم، وكذلك آدابه الخاصة، كترك السواك والتفكر في أمور النساء وغير ذلك) (¬1).
الخامس:
من تفاريع كون الغاية مخصصة: لو قال: (له علَيَّ مِن درهم إلى عشرة) وصححناه كما هو الصحيح، لزمه تسعة على الأصح؛ بِناءً على أن الغاية لا تدخل، وأن ابتداءها يدخل. وهو أحد قولين فيه حكاهما الغزالي.
بل ظاهر كلام الأصفهاني أن الخلاف الذي في انتهاء الغاية يأتي في الابتداء، أي: ما يمكن منه.
وقيل: إنما يلزمه ثمانية؛ بناءً على أن الابتداء والغاية لا يدخلان.
وقيل: يلزمه عشرة؛ بناءً على أنهما يدخلان، وهو ما صححه البغوي، ورجحه الرافعي في "المحرر" في الضمان دون غيره من الإقرار ونحوه، وقوَّاه الشيخ تقي الدين السبكي أيضًا.
ولو قال: (بِعتُك مِن هذا الجدار إلى هذا الجدار)، لم يدخل الجداران في البيع.
وفي الفرق بينه وبين ما سبق نظر.
¬__________
(¬1) نفائس الأصول (3/ 6).
قال [الخوارزمي] (¬1): وهو الحقُّ.
وقال [العَميدي] (¬2): لا يَلزمه التفسير أصلًا.
لكن هذا كله إذا لم يكن اللفظ مشهورًا. فإنْ كان مشهورًا، فالجزم تبكيت المعترِض. وفي مِثْله يُقال: "مُر فتعَلَّم، ثُمَّ ارْجِع فَتكلم".
تنبيهان
الأول: الاستفسار: استفعال مِن "الفسر"، وهو لُغة: طلب الكشف والإظهار، ومنه "التفسير".
ومن الغرابة خلط اصطلاح باصطلاح كما يقال في القياسات الفقهية لفظ "الدور" أو "التسلسل" أو "الهيولا" أو "المادة" أو "المبدأ" أو "الغاية". نحو أن يقال في شهود القتل إذا رجعوا: لا يجب القصاص؛ لأنَّ وجوب القصاص تَجَرَّد مبدؤه عن غاية مقصودة، فوجب أنْ لا يثبت.
وكذا ما أشبه ذلك من اصطلاح المتكلمين، إلا أنْ يعلم مِن حال خصمه أنه يَعرف ذلك، فلا غرابة حينئذٍ.
الثاني: إنما كان الاستفسار مقدم الاعتراضات؛ لأنه إذا لم يعرف مدلول اللفظ، استحال فيه تَوجُّه المنع أو المعارضة. وهُما مردُّ الاعتراضات كلها كما سيأتي.
وكان الشيخ عماد الدين الإسنائي يقول: في عَدِّ "الاستفسار" من الاعتراضات نظر؛
¬__________
(¬1) كذا في (ت)، لكن في (ص): الجوادي. في (ق، ش): الخوَّاري.
(¬2) كذا في (ق)، لكن في (ت، ش، س): العبدي، وفي (ص): الهندي.