كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

المتوسِّط بَيْن الطرفين.
الرابع عشر: الذكاء، وهو قوة الحدس وبلوغه الغاية؛ لأنه مِن "ذكت النار".
الخامس عشر: الفِطْنَةُ، وهي التَّنَبُّه للشيء الذي [يقصد] (¬1) معرفته.
السادس عشر: الكَيْس، وهو استنباط الأنفَع والأَوْلَى، ومنه الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الكَيِّسُ مَن دَانَ نَفْسَه وعمل لِمَا بعد الموت" (¬2). ولذلك جُعِلَ [مُقابِلَ] (¬3) العَجْز في حديث: "كُلُّ شيء بِقضاءٍ وقَدرٍ، حتى العَجْز والكَيْس" (¬4).
السابع عشر: الرأي، وهو استحضار المقدمات، وإجَالةُ الخاطِر فيها وفيما يُعارِضُها.
الثامن عشر: التبَيُّن، وهو عِلْمٌ يَحْصُل بَعْد الالتباس.
التاسع عشر: الاستبصارُ، وهو عِلْم بَعْد التأَمُّل.
العشرون: الإحاطة، وهي العِلم بالشيء مِن جميع وُجُوهه.
الحادي والعشرون: العقل، تقُول: (عَقلْتُ الشيء)، أَيْ: عَلِمْتُه. وتكَرَّر في القرآن {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68]، وفي الحديث في تسوية الصفوف: "حتى رَأَى أنْ قد عَقلْنَا" (¬5). فهو مَصْدَر "عَقلْتُ الشيءَ أعْقلُه". وفي الفَرْق بين العقل والعِلْم أَوْ هُمَا مترادفان - خِلَافٌ مشهورٌ.
¬__________
(¬1) كذا في (ش، ت، ص). لكن في (ز): تقصد.
(¬2) سنن الترمذي (رقم: 2459)، سنن ابن ماجه (4260) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 2459).
(¬3) في (ش): في مقابله.
(¬4) صحيح مسلم (رقم: 2655).
(¬5) صحيح مسلم (رقم: 436).
تخاريجنا، بل لا يجوز نقله عن ذلك الكتاب إلَّا بلفظه دُون معناه، سواء في مصنفاتنا وغيرها.
قلتُ: وإنما لم أتعرض في النَّظم لهذه الشروط لأنَّ غير العارف لا يتحقق-[لا] (¬1) هو ولا غَيْره -أنه وافق المعنى، وأما المتعَبَّد بلفظه فاللفظ فيه مقصود، والإخلال به إخلال بالمعنى الذي قصد به؛ فلا يوافِق.
ومثله يُقال في الوارِد من جوامع الكلم؛ لِبُعْد أنْ يُؤْتَى بنظيره من كل وجه.
ونحوه الكتب المصَنَّفة، فإنَّ المقصود فيها ما اختير فيها مِن الألفاظ، حتى أنَّ مُصَنِّفها كالمدَّعِي أنه لا شيء يؤدي معناها الذي قَصَدَه، فلا تخلو كلها من نظر، فاستغنى عن الشروط بموافقة المعنى.

تنبيه:
مما استُدل به على جواز الرواية بالمعنى ما رُوي من تصريح غير واحد من الصحابة به، ويدل عليه روايتهم للحديث الواحد في الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة، وما رواه ابن منده في "معرفة الصحابة" من حديث عبد الله بن سليمان بن أُكيمة الليثي عن أبيه، قال: "قلتُ: يا رسول الله، إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك، فيزيد حرفًا أو ينقص حرفًا. فقال: إذا لم تحلوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى، فلا بأس". فذكر ذلك للحَسَن، فقال: لولا هذا ما حدثنا (¬2).
وأخرجه الطبراني في أكبر معاجمه من حديث يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أُكيمة
¬__________
(¬1) من (ت، ز، ق)، وليست في (ص).
(¬2) معرفة الصحابة لابن منده (2/ 724)، ط: جامعة الإمارات المتحدة، تحقيق: د. عامر صبري - ط: الأولى - 2005 م. وقال ابن منده: (سليمان بن أُكيمة الليثي مجهول). وقال الجورقاني (المتوفى 543 هـ) في كتابه (الأباطيل والمناكير، ): (هذا حديث باطل، وفي إسناده اضطراب).
501 - وَهَكَذَا تَمْلِيكٌ اوْ شَبِيهُهُ ... تَوْكِيدُ نَفْي أَوْ سِوًى (¬1) [تَزِيدُهُ] (¬2)
502 - مَعْنَى "إلَى"، "عَلَى" وَ"فِي" وَ"عِنْدَا" ... وَ"مِنْ" وَ"عَنْ" تَأْتِي لِذَاكَ قَصْدَا
الشرح:
فَـ "تَعْلِيلًا" مفعول مقدم، وعامله "وَفَى"، أي: إنَّ حرف اللام يَفِي بمعنى التعليل، أي: يفيده. وكذا تفيد المعاني التي ذكرت بعده.
والحاصل أن اللام لها مَعانٍ كثيرة بلغت فوق الثلاثين، وأفردها الهروي بكتاب "اللامات"، وقد ذكرت في النَّظم طائفة يُحتاج إليها في الاستدلال:
أحدها: التعليل، كقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
ومنه قول الزوج: (أنت طالق لرضا فلان)، فإنه يقع الطلاق في الحال سواء رضي أو سخط؛ لأنه للتعليل، لا للتعليق.
الثاني: الاختصاص، نحو: (الجُلُّ لِلْفَرَس). قال القرافي: وهو ما شهدت به العادة، كَـ "السرج للفرس" و"الباب للدار". وقد لا تشهد له عادة، كَـ "الولد لزيد"، فإنه ليس من لازم البشر أن يكون له ولد.
الثالث: الاستحقاق، نحو: النار للكافر.
الرابع: الملك، نحو: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284].
¬__________
(¬1) معناها: غَيْر. يعني: التوكيد لِغَيْر النفي. لسان العرب (14/ 413).
(¬2) كذا في (ن 2، ظ)، ويظهر لي أنه الصواب؛ لقول المؤلف في الشرح: (وهي الداخلة لتقوية عامل ضعيف بالتأخير). لكن في (ض، ق، ش، ص، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): تريده.
ولو قال: (له مِن هذه النخلة إلى هذه النخلة)، قال الشيخ أبو حامد: تدخل الأُولى في الإقرار دُون الأخيرة.
وقال الرافعي: (ينبغي أن لا تدخل الأُولى أيضًا كما في: بِعتُك من هذا الجدار إلى هذا الجدار) (¬1). انتهى
نعم، في الفرق بين مسألة الجدار وغيرها نظر كما سبق.
ولو شرط في البيع الخيار إلى الليل، انقطع بغروب الشمس. وقال أبو حنيفة: بالفجر.
ولو قال: (بعتُك بكذا إلى شهر كذا)، لم يدخل ذلك الشهر في الأجل.
وفي "البحر": لو وكَّلَه ببيع عَيْن بعشرة مؤخلة إلى يوم الخميس، لم يدخل يوم الخميس.
وفي "البسيط" حكاية وجهين فيما لو حلف لَيقضين حقه إلى رأس الشهر وقُلنا: (لا يدخل رأس الشهر بل يقضيه قبله) فقال: أردتُ بـ "إلى" معنى "عند"، هل يُقبل؟ والأرجح القبول.
السادس:
قولي: (مَا بِحَرْفِهَا خُولفَ) يشمل "حتى" و"إلى"، وهو ما يقتصر عليه كثير، ويشمل ما له دلالة على الغاية مِن غيرهما في بعض حالاته: كـ "اللام" في نحو قوله تعالى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف: 57]، أي: إلى. ومثله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] كما سبقت الأشارة إليه في الكلام على الحروف، وكـ "أو" في نحو قوله: (لأستسهلن الصعب أو أدرك المُنَى) أي: إلى، وكـ "مِن" في بعض التراكيب بتأويل في نحو: (رأيت الهلال من داري من خلل السحاب) أي: من داري إلى خلل.
¬__________
(¬1) العزيز شرح الوجيز (5/ 314).
لأنه طليعة جيش الاعتراضات، لا منها؛ لأنها خدش كلام المستدِل، و"الاستفسار" ليس فيه خدش، بل تَعَرُّف للمراد وتَبَيُّن للمطلوب؛ لِيَتَوَجَّه عليه السؤال.
وَيقْرُب مِن هذا حكاية الهندي عن بعض مُتأخِّري أهل الجدل أنه أنكر هذا السؤال. وهذا واضح؛ لأنَّ غايته استفهام، لا اعتراض.
وقد نقل ابن الحاجب في "مختصره الكبير" عن القاضي أبي بكر أنه قال: ما ثبت فيه الاستبهام، جاز فيه الاستفهام. والله أعلم.
ص:
882 - كَذَلِكَ "التَّقْسِيمُ": أنْ يُرَدَّدَا ... بَيْنَ الَّذِي مَمْنُوعُ بَعْضٍ عُدِّدَا
883 - جَوَابُهُ بِالْحَمْلِ لِلْمَذْكُورِ ... بِلُغَةٍ أَوْ عُرْفٍ اوْ ظُهُورِ
الشرح:
من الأسئلة العامة في الأدلة سؤال "التقسيم"، وهو كون لفظ المستدِل في دليله مترددًا بين معنيين فأكثر، المسلَّم منها لا يُحَصِّل المقصود، والممنوع هو المحصِّل له، لا إنْ كانا يحصلانه معًا أو لا يحصلانه معًا، فإنَّ التقسيم حينئذٍ لا معنى له؛ لأنَّ المقصود إما حاصل على التقديرين أو ليس بحاصل على التقديرين.
نعم، لو كانَا يُحصِّلان المقصود لكن البعض يَرِد عليه من القوادح ما لا يَرِفى على الآخَر، كان ذلك من التقسيم؛ لأنَّ فيه غرضًا صالحًا.
مثاله: أنْ يقال في ثبوت الملك في زمن خيار الشرط: وُجِد سبب الملك للمشترِي؛ فوجب أنْ يثبت. ويُبين وجود السبب بأنه بَيعْ صَدَر مِن أَهْله في محَله.
فيعترَض بأنَّ السبب إما مُطْلق البيع أو البيع الذي لا شرط فيه، والأول ممنوع، والثاني

الصفحة 132