كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

الثاني والعشرون: الحِسْبَان، وبابه مِن الظن والإخالة وغيرهما مما ذُكِر في العربية في باب "ظنَّ" وأخواتها، وقد نَظَمْتُ هذه الأنواع قديمًا، فَقُلْتُ:
عليك بأنواع العلوم مُرَتّبًا ... شُعُورٌ وإدراكٌ تَصَوُّرُ حِفْظِهَا
تَذَكُّرُ مَنْ بالذِّكْرِ يَفْقَهُ فَهْمَها ... ويَدْرِي يَقينًا ذِهْنُهُ مُتَوَجَّهَا
وفي الفِكْرِ مِن حَدْسِ الذَّكِي بِفطْنَةٍ ... يرى الكَيْسَ منها قد تَبَيَّن مَا وَهَى
[كذلك] (¬1) في استبصاره بإحاطةٍ ... وفي العقل مع حِسْبَانِه ما يُتِمُّها
إذَا عرفت ذلك، فَلنَرْجِع للمقصود، وهو انقسام العِلْم بهذا المعنى إلى تَصَوُّر وتصديق، فالتصور حصول صورة الشيء في الذهن بِشَرْط عَدَم الحُكْم، والتصديقُ تَصَوُّرٌ مع حُكْم، فالأول ساذِجٌ، أَيْ مشروط فيه عدمُ الحكم، والثاني مشروط فيه الحكمُ، فليس فيه تقسيمُ الشيء إلى نَفْسه، ولا كَوْنُ قِسْم الشيء قسيمه؛ إذِ الفَرْق ظاهر بين الماهية "لَا بِقَيْدٍ" و"بِقَيْدِ لَا"، ومن معنى هذا الفَرْق تظهر التفرقة بين مُطْلَق الماء والماء المُطْلَق (¬2)، ومُطْلَق الجَمْع والجَمْع المُطْلَق، وما أَشبه ذلك.
ومعنى "الحُكْم" في التصديق: إسنادُ أَمْرٍ إلى آخَر إثباتًا أو نَفْيًا. نحو كَوْن زَيْد قائمًا، أو ليس بقائم؛ فَخَرجَ: ما لا نِسْبَة فيه أَصْلًا، وما فيه نِسبةٌ قد تُصِوِّرت ولَم يُحْكَم فيها بإثبات أو نَفْي.
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ت)، لكن في (ز): كذاك.
(¬2) إذا قلت: "إيمان" فهذا مطلق الإيمان (لا بِقَيْد)، وإذا قلت: "إيمان لا معصية معه" فهذا هو الإيمان المطلق (بِقَيْد "لا"). فمطلق الماء أن تقول "ماء"، فليس مقيدًا بكونه ماء صابون أو ماء ورد، فهو أَيّ ماء كان، أما الماء المطلق فهو "ماء لا يختلط به شيء"، فهو ماء مع قيد "لا".
عن أبيه عن جده (¬1).
ومما استدل به بعض المتأخرين ما في الصحيحين وغيرهما من حديث سؤاله يوم النحر في حجة الوداع عمن حلق قبل أنْ يذبح، فقال له: "اذبح ولا حرج". وقال آخَر إنه نحر قَبْل أن يرمي، فقال: "ارْم ولا حرج". ثم قال الراوي وهو ابن [عمر] (¬2): فما سُئل يومئذٍ عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر إلَّا قال: افعل ولا حرج (¬3).
فإنَّ صَدْر الحديث يدل على أنه لم يَقُل: "افْعَل"، بل قال: "اذبح" و"ارْم " وغير ذلك، فعبَّر عن الكل بِـ "افْعَل" الذي هو بمعناه.
قال المحدِّثون: ينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عقبه: "أو كما قال" أو "نحوه" أو شبهه من الألفاظ الدالة على أنه ليس لفظ الأصل على التحقيق، بل هو أو معناه.
رُوي ذلك عن جماعة من الصحابة، منهم ابن مسعود - رضي الله عنه -.

المذهب الثاني في أصل المسألة:
المنع مطلقًا. نقله إمام الحرمين وابن القشيري عن معظم المحدثين وبعض الأصوليين، ونُقل عن أبي بكر الرازي من الحنفية، ونقله القاضي عبد الوهاب عن الظاهرية، وحكاه ابن السمعاني عن ابن عمر وجمعٍ من التابعين منهم ابن سيرين، وبه أجاب الأستاذ أبو إسحاق، ووَهمَ صاحب "التحصيل" فعزاه للشافعي، ونقله القاضي عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث، وقال: إنه مذهب مالك.
¬__________
(¬1) المعجم الكبير (رقم: 6491).
(¬2) كذا في جميع النُّسخ، والصواب أنَّ الراوي ابن عمرو بن العاص.
(¬3) صحيح البخاري (رقم: 1649)، صحيح مسلم (رقم: 1306) ولكن الراوي: عبد الله بن عمرو بن العاص.
ومنهم من يجعله داخلًا في الاستحقاق، وهو أقوى أنواعه، وكذلك الاستحقاق نوع من الاختصاص؛ ولهذا اقتصر الزمخشري في "المفَصل" على الاختصاص.
وقيل: إن اللام لا تفيد بنفسها الملك، بل استفادته من أمر خارجي.
الخامس: العاقبة، ويُعبر عنها ايضًا بالصيرورة وبالمآل، نحو: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].
ويعزى للبصريين إنكار لام العاقبة، لكن في كتاب "الابتداء" لابن خالويه أن اللام في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} لام "كي" عند الكوفيين، ولام الصيرورة عند البصريين.
نعم، قال ابن السمعاني في "القواطع": (عندي أن هذا على طريق التوسع والمجاز) (¬1).
ولهذا قال الزمخشري: (إنه لا يتحقق). قال: (فإنه لم تكن داعية الالتقاط كونه لهم عدوًّا، بل المحبة والتبني، غَيْر أن ذلك لَمَّا كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شُبِّه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله).
قال: (واللام مستعارة لِمَا يُشبه التعليل، كما استُعير "الأسد" لن يشبه الأسد) (¬2).
ويمثل بعضهم لام العاقبة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179].
لكن قال ابن عطية: إنه ليس بصحيح؛ لأن لام العاقبة إنفي تتصور إذا كان فِعل الفاعل لم يُقصد به ما يصير الأمر إليه مِن [سكناهم] (¬3).
¬__________
(¬1) قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 44).
(¬2) الكشاف (3/ 398).
(¬3) في (ق، ظ، ض): سكناتهم. وعبارة ابن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز، 2/ 479): (و "ذرأ" معناه خلق وأوجد مع بث ونشر: وقالت فِرقة: اللام في قوله: {لِجَهَنَّمَ} هي لام العاقبة. أي: ليكون =
وذكر ابن مالك أن سيبويه أشار إلى هذا المعنى، وأنكره جَمعٌ وقالوا: هو يرجع لابتداء الغاية.
نعم، الغاية هي أظهر معاني "إلى" و"حتى".
وربما كانت "إلى" بمعنى "مع"، نحو: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، و"حتى" للابتداء، نحو: (حتى ماء دجلة أشكل). فإنها وإنْ أشعرت بغاية لكن لا للعامل فيما قبلها كما في نحو: (أكلت السمكة حتى رأسها).
بل قيل: إن الخلاف في دخول ما بعد الغاية لا ينبغي أن يجري في "حتى"؛ لاشتراط أهل العربية أن يكون معطوفها جزءًا من المعطوف عليه بها.
ولكن ذاك في العاطفة، والخلاف إنما هو في "حتى" مِن حيث هي.
نعم، نشأ من احتمال "إلى" أنْ تكون بمعنى "مع " أن المرافق في غسلها في الوضوء إنما هو لذلك، أو أنه لما لم يكن [متميزًا بمحسوس] (¬1) كما سبق عن اختيار الإمام الرازي، كان غسل المرافق احتياطًا كما أجاب به البيضاوي.
أو أنه لما احتمل، بينته السُّنة في حديث: "وأدار الماء على مرفقيه" (¬2).
السابع:
حكى التبريزي في "مختصر المحصول" خلافًا في أن الغاية إذا كان لها جزءان فأكثر، هل الخلاف في الأول؟ أو الأخير؟
¬__________
(¬1) كذا في (ص)، لكن في (س، ض): يتميز المحسوس. وفي (ق): متميز المحسوس.
(¬2) سنن الدارقطني (1/ 83)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 259). وفي إسناده عبد الله بن عقيل، قال الدارقطني في سُننه: (ابن عقيل ليس بقوي). وهو في (السلسلة الصحيحة: 2067) وقال الألباني: (الحديث قواه الصنعاني في "سبل السلام" بحديثي ثعلبة ووائل).
مُسلَّم لكنه مفقود في صورة النزاع؛ لأنه مشروط بالخيار.
ومثاله في أكثر من اثنين:
لو قيل: المرأة بالغة عاقلة؛ فيصح منها النكاح، كالرجُل.
فيقول المعترِض: العاقلة إما بمعنى لها تجربة، أو لها حُسن رأي وتدبير، أو لها عقل غريزي. والأول والثاني ممنوعان، والثالث مُسلَّم لكن لا يكفي؛ لأنَّ الصغيرة لها عقل غريزي ولا يصح منها النكاح.
واختُلف في قبول هذا السؤال، فقيل: إنَّ سؤال الاستفسار يُغْني عنه، فلا حاجة إليه. والمختار أنه يُقبل لكن بَعْد ما يُبَيِّن المعترِض محَل التردد.
وقولي: (جَوَابُهُ) إلى آخِره - أيْ: جواب هذا الاعتراض أنْ يقول المستدِل: (لفظي الذي ذكرتُه محمول على المعنى الذي يؤدي للدلالة، والدال لي على حمله على ذلك اللغة أو العُرف الشرعي أو العُرف العام أو كونه مجازًا راجحًا بِعُرف الاستعمال).
أو يقول: (أحد الاحتمالات - وهو ما يدل لي - ظاهر)؛ بسبب ما انضم إليه مِن القرينة في لفظ المستدِل إنْ كان هناك قرينة لفظية أو عقلية أو حالية بحيث لا يحتاج إلى إثباته لغةً ولا عُرفًا. وهو معنى قولي: (أوْ ظُهُورِ).
تنبيه:
لم أذكر في الاعتراضات ما أشار إليه ابن الحاجب من التركيب؛ لأنه قد تَقدم في شروط حُكم الأصل، وقد أحاله هو أيضًا على ما ذكره هناك. فسبق أنه راجع إلى منع حُكم الأصل أو منع العلة أو وجودها.
ولذلك لم أذكر منها سؤال التعدية ولا سؤال تعدد الوضع؛ لرجوعها إلى المعارضة، فإنها معارضة خاصة.

الصفحة 133