كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

وكُل تصديق متضمِّنٌ مِن مُطْلَق التصوُّر [ثلاثة تَصَوُّرات] (¬1): تَصَوُّر المحكوم عليه والمحكوم به مِن حيث هُمَا، ثُمَّ تَصَوُّر نِسْبة أحدهما للآخَر، فالحُكْمُ يَكونُ تَصَوُّرًا رابعًا عَلَى ما قاله المحقِّقون؛ لأنه تَصَوُّرُ تلك النسبة مُوجبَة أو تَصَوُّرُها مَنْفِيَّة، وهذا التصور أيضًا مِن مُطْلَق التصور، لا تَصَوُّرٌ مُطْلَق؛ لأنه قسيمُه. وبهذا التقرير لا يخرج التصديق عن مَقُولة الانفعال التي منها العِلْم على قول الأكثرين، أو مِن مقولة الكَيْف وبه قال كثير، وليس المراد مِن [الحُكْم بالنفي أو الإثبات] (¬2) إلَّا هذا، لا التأثير في إيجاده أو في عَدَمه؛ لأنَّ ذلك مِن مقولة الفعل وهو خارج عن مقولة العِلْم، فَيَعُود معنى الحُكْم إلى اعتقاد [الشيء] (¬3) مُثْبَتًا أو اعتقاده منفِيًّا. وفي الموضع مباحثُ أخرى ليس في التطويل بها كبيرُ فائدة.
نَعَم، ذهب الأقدمون - كابن سينا وغيْره - إلى أنَّ التصديق نفسُ الحُكْم كيف [فرضته] (¬4)، وتلك التصوراتُ الثلاثة السابقةُ عَلَيه شَرْطٌ له.
وذهب الإمامُ الرازي وجَمْعٌ مِن المحققين إلى أنَّ المجموع هو التصديق، فالتصورات السابقة عَلَى الحكم شطْرٌ مِن التصديق، لا [شَرْطٌ] (¬5)، وإنما سُمِّي التصورُ تصَوُّرًا لِأَخْذِه مِن الصُّورة؛ لأنه حصول صورة الشيء في الذهن، والتصديق تصديقًا؛ [لأنَّ فيه] (¬6) حُكْمًا يُصَدَّق فيه أو يُكَذَّب؛ فَسُمِّي بِأَشْرَف لَازِمَي الحُكْم في النسبة.
¬__________
(¬1) كذا في (ز، ق، ص، ت). وفي (ش): ثلاث تصويرات. وفي (ض): ثلاث تصورات.
(¬2) كذا في (ز، ق، ص، ت). وفي (ش): النفي والاثبات. وفي (ض): الحكم بالنفي الاثبات.
(¬3) ليس في (ش).
(¬4) في (ش): فرض.
(¬5) في (ز): شرط فيه.
(¬6) في (ش): لأنه.
لكن ابن الحاجب قال: (وعن مالك أنه كان يشدد في الباء والتاء. أي: مثل "بالله" و"تالله"، قال: وحمل على المبالغة في الأَوْلَى) (¬1).
وقال غير ابن الحاجب: إنه ذهاب منه إلى منع نقل الحديث بالمعنى، وأنه كان يقول: لا يُنقل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى، بخلاف حديث الناس.

فهذا مذهب ثالث بالتفصيل، ونقل الماوردي ذلك عن مالك.
لكن قال الباجي: (لعَلَّه أراد به مَن لا عِلم له بمعنى الحديث، وقد نجد الحديث عنه تختلف ألفاظه اختلافًا بَيِّنًا؛ فَدَلَّ على أنه مُجَوِّزٌ للرواية بالمعنى) (¬2).

المذهب الرابع: التفصيل بمن ما يوجِب العِلم من ألفاظ الحديث، فالمعوَّل فيه على المعنى، ولا يجب مراعاة اللفظ.
وأما الذي يجب العمل به فمنه ما لا يجوز الإخلال بلفظه، كقوله عليه الصلاة والسلام: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" (¬3)، و: "خمس يُقتلن في الحل والحرم" (¬4). حكاه ابن السمعاني وجهًا لبعض أصحابنا.

الخامس: التفصيل بمن أن يُقطع بأنه مَعناه أو يُظن. فإنْ قطع بأنه معناه، جاز. أو ظن، لم يَجُز. قاله إمام الحرمين.

السادس: يجوز إن نَسي اللفظ؛ لأنه قد تحمَّل اللفظ والمعنى وعجز عن أحدهما، فيلزمه
¬__________
(¬1) مختصر المنتهى (1/ 616)، الناشر: دار ابن حرم.
(¬2) إحكام الفصول في أحكام الأصول (1/ 390)، نشر: دار الغرب الإسلامي، ت: د. عبد المجيد.
(¬3) سنن أبي داود (رقم: 61)، سنن الترمذي (3)، وغيرهما. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 61).
(¬4) صحيح البخاري (رقم: 3136)، صحيح مسلم (رقم: 1198) واللفظ لمسلم.
السادس: التمليك، كَـ: (وهبت لزيد دينارًا)، ومنه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية.
السابع: شبه التمليك، نحو: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72].
الثامن: توكيد النفي، أي نَفْي كان، نحو: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. ويُعبر عنها بِـ "لام" الجحود؛ لمجيئها بعد النفي؛ لأن الجحد هو نفي ما سبق ذِكره.
التاسع: مُطلق التوكيد، وهي الداخلة لتقوية عامل [ضعيف] (¬1) بالتأخير، نحو: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] الأصل: تعبرون الرؤيا، أو لكونه فرعًا في العمل، نحو: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]. وهذان مَقِيسان.
وربما أكد بها بدخولها على المفعول، نحو: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72].
نعم، لم يذكر سيبويه زيادة اللام، وتابعه الفارسي؛ ولهذا أوَّل بعضهم {رَدِفَ لَكُمْ} على التقريب، أي: اقترب. ويشهد له تفسير البخاري "ردف" بمعنى: قرب.
العاشر: أن تكون بمعنى "إلى"، نحو: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف: 57]، {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5].
¬__________
= أمرهم ومَاَلهم لجهنم. وهذا ليس بصحيح؛ ولام العاقبة إنما تُتصور إذا كان فِعل الفاعل لم يُقصد به ما يَصِير الأمر إليه. وهذه اللام مِثل التي في قول الشاعر:
يا أم فرو كفي اللوم واعترفي ... فكل والدة للموت تَلِد
وأما هنا فالفعل قُصد به ما يَصير الأمر إليه مِن سكناهم جهنم).
(¬1) في (ص): ضَعُفَ.
قال القرافي: (ولم أره إلا فيه، وغيره إنما يحكى الخلاف مطلقًا من غير تَعرُّض للأجزاء) (¬1). انتهى.
ولكن ليس ما قاله التبريزي بعيدًا، بل يظهر من فوائده أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقبل الله صلاة أحدكم إذا أَحْدَث حتى يتوضأ" (¬2) هل معناه كمال الوضوء فلا يرتفع الحدث عن عضو حتى يتم؟ أو يرتفع عن كل عضو قبل أن يشرع فيما بعده؛ إذ المعنى: لا يقبل الله صلاة مَن أحدث ما كان مُحْدثًا وحَدَثه لا يزال حتى يتوضأ.
قلتُ: وفيه نظر؛ لأنَّ نفي القبول أو نفي الصحة (إذا قُلنا: لازِمَة له) إنما هو متعلق بتمامه إجماعًا.
وإنما منشأ الخلاف في ارتفاع حدث البعض النظرُ إلى توقُّف كلٍّ على المجموع، لا كل واحد على تطهيره فقط.
ونحوه حديث "مسح الخفين": "إذا تَطَهَّر فَلَبسَ خُفَّيْه" (¬3)، هل المعنى الكامل؟ أو تطهير كل رِجل؟
الثامن:
قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] الآية، وقع خلاف للعلماء في أن المغيَّا هو المعلق عليه الشرط لا سيما على قراءة: {حَتَّى يَطَّهُرْنَ} بالتشديد؟ أو غيره؟ وعلى الأول: يكون الإذن في القربان استُفيد من الغاية بـ "حتى"؛ أو مِن الشرط بـ "إذا"؟ أو
¬__________
(¬1) نفائس الأصول (3/ 7).
(¬2) سبق تخريجه.
(¬3) صحيح ابن خزيمة (192)، صحيح ابن حبان (1324)، السنن الكبرى للبيهقي (1250) وغيرها. قال الألباني: حسن. (التعليقات الحسان: 1321).
ولم أذكر أيضًا سؤال اختلاف جنس المصلحة؛ لِمَا سبق آنفًا مِن الجواب عنه.
وأما سؤال المعارضة فَلِمَا سبق أيضًا في شروط العلة مِن اشتراط عدم المعارِض المُنافي.
فقول ابن الحاجب في الاعتراضات: (إنها خمسة وعشرون) قد عَلِمْتَ تَداخُلها مما سبق في تقريرها. والله أعلم.
ص:
884 - وَالِاعْتِرَاضَاتُ الْجَمِيعُ رَاجِعَهْ ... لِلْمَنْعِ أَوْ مُعَارَضَاتٍ [وَاقِعَهْ] (¬1)
الشرح:
قال الجدليون: الاعتراضات راجِعة إما إلى مَنعْ في مقدمة من المقدمات أو معارَضة في الحكم، فمتى حصل الجواب عنهما فقد تم الدليل، ولم يَبْقَ للمعترِض مجال، فيكون ما سوى ذلك من الأسئلة باطلًا؛ فلا يُسْمَع.
وقال بعض الجدليين وتبعهم ابن السبكي في "شرح المختصر": إنها كلها ترجع إلى المنع فقط؛ لأنَّ المعارَضة منع للعلة عن الجريان.
نعم، قال بعضهم: إلا الاستفسار؛ لأنه طلب بيان المراد من اللفظ.
قيل: بل يمكن رجوعه أيضًا إلى المنع؛ لأنَّ الكلام إذا كان مُجْمَلًا لا يحصل غرض المستدِل بتفسيره، فالمطالبة بتفسيره تستلزم منع تحقق الوصف ومنع لزوم الحكم عنه.
¬__________
(¬1) في (ن 1، ن 5): دافعة.

الصفحة 134