مثلهما، وهو معنى قولي: (وَمَا انْتَفَى عَنْ عِلْمِهِ التَّوَقُّفُ المُعَيَّنُ)، أَيْ: توقُّف التصور على تصور، والتصديق على تصديق.
مثالهما: تَصَوُّر الواحد والحُكْم عليه بأنه نِصْفُ الاثنين.
تنبيه:
قد عُلِم مِن تقسيم كل مِن التصور والتصديق إلى ضروري ونظري أنه ليس الكل مِن كل منهما ضروريًّا (وإلَّا لَمَا جَهلْنَا شيئًا) ولا نظريًّا (وإلَّا لَمَا تحَصَّلْنَا على شيء)، والمسألةُ فيها مذاهبُ كثيرة وأدلة منتشرة لا يليق بِذِكْرها هذا المختصر، ولا طائل تحتها، والله أعلم.
ص:
31 - أمَّا الَّذِي [ثانِي] (¬1) مَعَانِي العِلْمِ ... فَمُطْلَقُ التَّصْدِيقِ عِنْدَ الفَهْمِ
32 - وَهْوَ الَّذِي قَدْ قابَلُوا بِالْمَعْرِفَهْ ... لِأنَّهَا تَصَوُّرٌ دُونَ صِفَهْ
33 - مِنْ أَجْلِ هذَا عُدِّيَتْ لِوَاحِدِ ... وَهْوَ إلَى اثْنَيْنِ؛ [لِحُكْمٍ] (¬2) زائِدِ
الشرح:
أَيْ: الثاني مِن معاني العِلم وإطلاقاته أنْ يُرَاد به مُطْلَق التصديق، سواء أكان قَطْعِيًّا أَم ظنَّيًّا، لا التصور. وحينئذ فيَكون مُقابِلًا للمعْرفة التي هي تَصَوُّرٌ مُجَرَّدٌ لا حُكْم فيه، وهو معنى قولي: (دُونَ صِفهْ). أَيْ: دُونَ حُكْم، وليس مُرادِي هنا بِـ "الصفة" ما هو مُقابِل للذَّات والفعل والحُكْم، ومعنى مقابلته أنك تقول: (إمَّا معْرفة وإمَّا عِلم)، كما تقول: (إمَّا تَصَوُّر
¬__________
(¬1) في (ن 2): يأتي.
(¬2) كذا في (ص، ش، ن 1، ن 2، ن 4). لكن في (ز، ت، ض، ق، ن 5): بحكم.
يكون مع الترادف؛ لِكَوْن اللفظ:
- مُركبًا، والمترادف من قِسم المفرد، ولذلك جاء ها هنا مذهب بالفرق بين المترادف وغيره كما سبق.
- أو أعجميًّا، والمترادف من أقسام لغة العرب وإن أمكن أن يكون في غيرها. وسيأتي لذلك مزيد بيان في موضعه.
وعلى كل حالٍ فهذه الفوائد قسمان:
أحدهما: الترجمة عن الألفاظ العربية بغيرها، وله أضرب:
أحدها: ما يمتنع قطعًا، كترجمة القرآن بِلُغة أخرى، وهو إجماع. وما يُحكَى عن أبي حنيفة من تجويزه قراءة القرآن بالفارسية صَحَّ أنه رجع عنه. حكاه عبد العزيز في "شرح البزدوي" (¬1)، وعلى تقدير أنه لم يَرجع تأوَّلَه بعض أصحابه بأنه أراد عند الضرورة والعجز عن القرآن.
نعم، قال القفال في "فتاويه": عندي أنه لا يَقْدِر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية. قيل له: فإذَنْ لا يَقدر أحد أن يُفَسرَ القرآن. قال: ليس كذلك؛ لأنَّ هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد الله ويعجز عن البعض، أمَّا قراءته بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله تعالى.
وقال غيره: الفرق بين معنى "الترجمة" ومعنى "التفسير" أن "الترجمة" بدل اللفظ بلفظ يقوم مقامه في مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ؛ فلذلك امتنع.
و"التفسير" عبارة عمَّا في النفس من المعنى للحاجة والضرورة، فهو تعريف السامع بما فَهم المترجِم؛ فلا يمتنع، وهو فَرْقٌ حَسَن.
¬__________
(¬1) كشف الأسرار (1/ 40)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت.
تضمين الفعل المتعلق به ذلك الحرف ما يَصْلُح معه معنى ذلك الحرف على الحقيقة، ويَرَوْن التجوُّز في الفعل أسهل من التجوز في الحرف. والله أعلم.
ص:
503 - وَمنْهُ "لَوْلَا"، وَهْوَ حَرْفٌ يَقْتَضِي ... في اسْمِيَّةٍ أَنَّ جَوَابَ الْمُقْتَضِي
504 - مُمْتَنِعٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ... وَفي مُضَارعٍ [لِحَضٍّ] (¬1) تُعْطِي
505 - وَالْمَاضِ تَوْبِيخًا، وَممَّا قُدِّمَا ... "لَوْ" لِامْتِنَاعِ مَا يَلِيهَا اسْتَلْزَمَا
الشرح:
"لولا" حرف معناه باعتبار ما يدخل عليه، فإن دخلت على جملة اسمية، كانت للشرط، فتقتضي امتناع جوابها؛ لوجود شرطها، نحو: (لولا زيد لأكرمتك)، أي: لولا زيد موجود، فحذف خبر المبتدأ وجوبًا.
وأما نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" (¬2) فالتقدير فيه: لولا مخافة أن أشق عليهم لأمرتهم أمر إيجاب. فالمنفي أمر الإيجاب، لوجود خوف المشقة، وإلا لانعكس المعنى، إذِ الممتنع المشقة والموجود الأمر.
وإن دخلت على جملة فعلية فِعلها مضارع، كانت للتحضيض، أي: للطلب الحثيث، نحو: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النمل: 46].
وإن دخلت على فِعلية فِعلها ماض، كانت للتوبيخ، كقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ش، ن 3، ن 4) وهو الصواب. لكن في (ن 1، ن 5): لحظ. وفي (ن 2): لحد. وفي (ظ): يحض. وفي (ف): بحض.
(¬2) صحيح البخاري (رقم: 6813)، صحيح مسلم (رقم: 252).
يتحقق فيه معنى الإخراج، والتخصيص لا بُدَّ فيه من الإخراج؛ فلذلك قدروا في آية الحج: ولله الحج على المستطيع.
وكذا أنكره الاصفهاني في "شرح المحصول"؛ ومن ثَم لم يذكره الأكثرون كما أشرتُ إليه في النَّظم، وصوَّبَهم الشيخ تقي الدين السبكي؛ لِما سبق مِن كون المبدل منه في نية الطرح.
وأيضًا: فلو لم يكن البدل مُستغنًى به عن المبدل منه لَمَا سموه بدلًا؛ لأن بدل الشيء لا يجتمع معه، فإذا اجتمعا، وجب تقدير اطراحه.
وأيضًا: فالبدل مُعبَّر به عن بعض المبدل منه، فهو من العام المراد به الخصوص، لا العام المخصوص.
قلتُ: لكن فيما قالوه نظر من وجهين:
أحدهما: أن الشيخ أبا حيان نقل التخصيص بالبدل عن الشافعي، إذ قال في قصيدته التي رويناها عن شيخنا شيخ الإسلام البلقيني قراءة عليه عن أبي حيان متضمنة لمدح الشافعي (رحمه الله): إنه هو الذي استنبط الفن الأصولي، وإنه الذي يقول بتخصيص العموم بالبدلين. ومراده: بدل البعض، وبدل الاشتمال. فاستفدنا منه أن بدل الاشتمال في معنى بدل البعض في التخصيص عند مَن يقول به.
ومعناه ظاهر؛ لأنَّ قولك: (أعجبني زيد علمه) يكون الأول مُعبرًا به عن مجموع ذاته وعِلمه وسائر أوصافه، فإذا قلت: (عِلمه) تخصَّصَ الحكم بعلمه فقط.
وإنما لم أذكره في النَّظم لرجوعه بالتأويل المذكور لبدل البعض فيما قصد من التخصيص.
نعم، فهم كثير مِن "البدلين" أنهما بدل البعض وبدل المطابقة، وذلك فيما إذا كان المبدل منه نكرة عامة والبدل معرفة أو نكرة خاصة، فإن ذلك لا يخرجه عن كونه بدل مطابقة.
قال ابن الحاجب: (والمختار جوازه؛ لأنَّ التسليم ليس بتحقيقي، وإنما هو تقديري).
قال الهندي: وهو الحق، وعليه العمل في المصنفات.
وإذا كان كذلك، [فَتُرَتَّب] (¬1) الأسئلة، وإلا لكان إيرادها بلا ترتيب منعًا بعد تسليم. فإنك لو قلت: (لا نُسلم أن الأصل مُعلَّل بكذا)، فقدْ سلَّمتَ ضمنًا ثبوت الحكم، فكيف تمنعه بعد ذلك؟ !
وقد يقال: إذا كان التسليم تقديريًّا، فلا يضر ذلك.
قال ابن السبكي في "شرح المختصر": (ولم لا يَرقى المستدِل؟ فيقول: "لا أُسلِّم أنَّ الأصل معلَّل بكذا، بل لا أُسلم ثبوت الحكم فيه" كما يقول: "لا أُسلِّم الحكم، وإنْ سلَّمته فلا أُسلِّم العِلة"، فيكون الأظهر تجويز ذلك) (¬2). نعم، إذا ثبت الترتُّب في إيرادها، فيقدم ما يتعلق بالأصل ثم بالعلة ثم بالفرع كما بيَّناه قريبًا.
الثاني: في ضابط لأهل الجدل:
وهو أن المنع في الدليل إما أن يكون لمقدمة من مقدماته قبل التمام أو بَعْده.
والأول: إما أن يكون مجردًا عن المستند أو مع المستند وهو "المناقضة"، فهي منع مقدمة مِن الدليل سواء ذُكر معها مستند أو لا.
قال الجدليون: ومستند المنع هو ما يكون المنع مَبنيًّا عليه، نحو: لا نُسلم كذا، أو: لِمَ لا يكون كذا؟ ولا نُسلم لزوم كذا، وإنما يَلْزَم هذا أنْ لو كان كذا.
ثم إنِ احتيج لانتفاء المقدمة، فيسمى عندهم "الغصب"، أي: غصب منصب التعليل.
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ت، س)، لكن في (ق): فتترتَّب. وفي (ض، ش): فلترتب
(¬2) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 479).