كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

وقيل: "المعرفة" لِمَا نُسِي ثُمَّ ذُكِر، كقوله تعالى: {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58]، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، ونحو ذلك، بِخِلَاف "العلم"؛ فإنه أَعَم.
وفروق أخرى أَضْرَبْتُ عنها؛ لِضعفها.
قولي: (عُدِّيَتْ لِوَاحِدِ) أَيْ: المعرفة، (وَهْوَ إلَى اثْنينِ) أَيْ: العِلم. فالتمييزُ بينهما بالتذكير والتأنيث في الضمير.
وقولي: (لِحُكْمٍ زائِدِ) تعليل للتعدية إلى اثنين؛ لأنَّ الحُكم يستدعي محكومًا عليه ومحكومًا به كما قررناه، والله سبحانه أعلم.
ص:
34 - وَالثَّالِثُ: الْمَعْنَى الشَّهِيرُ الْفَائِقُ ... حُكْمٌ لِذِهْنٍ جازِمٌ مُطَابِقُ
35 - لِمُوجِبٍ، فَغَيْرُ جازِمٍ رَجحْ ... "ظَنٌّ"، ومَرْجُوحٌ [فَوَهْمٌ] (¬1) اتَّضَحْ
36 - وَمُسْتَوِي الطَّرْفَيْنِ "شَكٌّ" نُبِذَا ... وَإنْ يَكُنْ غَيْرَ مُطابِقٍ، فَذَا
37 - يُسْمَى "اعتِقَادًا فَاسِدًا" وَ"جَهْلَا ... مُرَكَّبًا"، أمَّا "الْبَسِيطُ" نَقْلَا
38 - فَهْوَ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ ... عَنْ قابِلٍ لِلْعِلْمِ، لَا جُلْمُودِ (¬2)
الشرح:
أَيْ: الثالث مِن إطلاقات "العِلم" (وهو أشهرها وأكثرها استعمالًا): أنْ يَكون بمعنى
¬__________
(¬1) كذا في (ض، ت). لكن في (ص، ز، ق، ش، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5): بِوَهْم.
(¬2) الجلمود: الصخر.
ص:
320 - وَيُقْبَلُ الَّذِي لَهُ تَسَاهُلُ ... لَا في الْحَدِيثِ، وَكَذَا الْمُوَاصِلُ
321 - بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ إنْ أَمْكَنَ أَنْ ... يُحَصِّلَ الْمَرْوِيَّ في ذَاكَ الزَّمَنْ
الشرح:
لما ذكرتُ الشرط الثالث في الراوي وهو كونه ضابطًا واستطردتُ إلى مسألة الرواية بالمعنى، رجعتُ إلى ما يتعلق بالشرط المذكور، وهو كون التساهل هل هو مَظنة عدم الضبط؟ أو لا؟ والإكثار من الحديث هل هو مظنة التساهل؟ أو لا؟
فهاتان مسألتان:
الأولى: المتساهل إنْ كان تساهله في الحديث سماعًا وإسماعًا (كمَن لا يبالي بالنوم في السماع أو يُحدِّث لا مِن أصلٍ مصحح أو نحو ذلك)، فلا تعتبر روايته بلا خِلاف كما قاله في "المحصول" (¬1) وغيره.
نعم، إذا كان نعاسه يسيرًا بحيث لا يختل معه الكلام، لا يضر.
ومما يُعَدُّ من التساهل في الحديث تساهلًا مُضِرًّا مَن عُرِف بالتأويل لأجل مذهبه، فربما أحال المعنى بتأويله، وربما يزيد في موضع زيادة يُصحح بها مذهبه أو ينقص، أو يُغيِّر؛ لذلك فلا يوثق بخبره. قاله ابن السمعاني (¬2).
ومن المتساهلين أيضًا: مَن عُرِفَ بقبول التلقين في الحديث، فيروي ولا يَذكر أنه لُقِّنَ ما
¬__________
(¬1) المحصول (4/ 425).
(¬2) قواطع الأدلة (1/ 346).
الجزئين فلا.
قلتُ: وينتقض ذلك بِـ "إذَا" الشرطية، فإنها للشرط بلا خلاف.
وهل تَرِد "لو" للشرط في المستقبل؟
أَثبته جمعٌ؛ [كقوله] (¬1) تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، وقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9].
وخطَّأهم ابن الحاج في نقده على "المقرب" (¬2)؛ للقطع بامتناع "لو يقوم زيد فعمرو منطلق" كما يقال: "إن لا يقم زيد فعمرو منطلق".
أي: من حيث إنها إذا كانت للشرط في المستقبل تكون باقية على حُكمها في انتفاء جوابها لانتفاء شرطها، لكن لا يَلزم من كون الشرط منتفيًا أن يكون الجواب منتفيًا في غير "لو"، فكذا في "لو" إذا انتفى شرطها فقدْ لا ينتفي جوابها، فاتفاقهم على منع "لو يقوم زيد فعمرو منطلق " ينافي أن يكون شرطًا كَـ "إن".
وفيما قاله نظر؛ لأن الذي يجعلها كَـ "إن" لا يقدر فيها امتناعًا لامتناع؛ ولذا منع بدر الدين ابن مالك ذلك؛ لصحة حمل ما أورده على الشرط في المعنى.
ثم إذا قُلنا بالظاهر المشهور من اختصاصها بالماضي، فقال أبو علي الشلوبين: إنها لمجرد الربط. والجمهور على أنها تقتضي امتناع ما دخلت عليه.
ولهم في التعبير عن معناها عبارات:
¬__________
(¬1) في (ص، ض): لقوله.
(¬2) كتاب "المقرب" في النحو، لابن عصفور.
الحس، فلم يخرج عن كونه خارجًا بالعقل؛ فَلْيَكُونَا قِسمًا واحدًا وإنِ اختلف طريق الحصول.
وقد أشار إلى ذلك العبدري في "شرح المستصفى" في المقدمة حتى ادَّعَى أن أصل العلوم كلها الحِس.
لكن ما قاله مردود، فإنَّ مِن الفِرَق مَن ينكر الحسِّيَّات ويعترف بالبديهيات، كأفلاطون وأرسطاطاليس وبطليموس وجالينوس، لا على معنى سقوطه بالكُلية، بل على معنى أنه يُخطئ ويصيب؛ لأنه عُرضة للآفات وفاسد التخيلات.
والرد عليهم في ذلك مشهور في محله، فكيف يُدَّعَى الاتحاد بين الحس والعقل؟
نعم، قد يؤخذ مِن ذلك خِلاف في أن الحس يُخصِّص أوْ لا وإنْ لم يتعرضوا لخلاف فيه.

الثاني من المخصِّص المنفصل:
العَقل، ضروريًّا كان أو نظريًّا.
فالأول: كتخصيص قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، فإنَّ العَقل قاضٍ بالضرورة أنه لم يخلق نَفْسَه الكريمة ولا صفاته القديمة.
والثاني: كتخصيص قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فإنَّ العقل -بِنَظَرِه - اقتضى عدم دخول الطفل والمجنون في التكليف بالحج؛ لعدم فَهْمهما، بل هما من جملة الغافل الذي هو غير مخاطَب بخطاب التكليف كما سبق في الكلام على الحُكْم أول الكتاب.
قال الشيخ أبو حامد: (لا خلاف بين أهل العلم في ذلك).
نعم، منع كثيرٌ أنَّ ما خرج مِن الأفراد بالعقل مِن باب "التخصيص"، وإنما العقل اقتضى عدم دخوله في لفظ العام، وفَرْق بين عدم دخوله وبين خروجه بعد أنْ دخل.
تركها وهُم أبناء عشر" (¬1). فإنَّا نَقطع أيضًا بعدم اعتبار الشرع الذكورة والأنوثة فيه، ونَقطع بأنْ لا فارِق بينهما في الموضعين سوى ذلك.
وكذا إذا لم يُقْطَع بنفي الفارق ولكن احتمال الفارق يكون ضعيفًا جدًّا، فإنه مُلْحَق بالقَطْع بنفيه.
مثاله: إلحاق العمياء بالعوراء في حديث المنع من التضحية بالعوراء (¬2) مع أنه قد يُتخيَّل - على بُعْد - افتراقهما مِن حيث إنَّ العمياء تُرشد إلى مكان الرعي الجيد؛ فترعى؛ فتسمن، والعوراء توكل إلى نفسها وهي ناقصة عن البصيرة؛ فلا ترعى حق الرعي؛ فتكون مظنة للهزال.
فغير هذين المذكورين في "الجلي" مِن الأقيسة يكون خَفيًّا.

تنبيهات
أحدها: أنَّ من الأصحاب مَن يقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام: جلي، وواضح، وخفي.
فالجلي ما ذُكِر.
والخفي: قياس الشَّبه.
والواضح: ما بينهما.
¬__________
(¬1) مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 6756)، سنن أبي داود (494)، سنن الترمذي (407)، وغيرها. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح الترمذي: 407).
(¬2) سنن أبي داود (رقم: 2802)، سنن الترمذي (رقم: 1497) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2802).

الصفحة 139