فقالوا في باب الإيلاء: لو قيد بِمُسْتَبْعَدِ الحصولِ في أربعةِ أشهُر (كنزول عيسى عليه السلام) فمول، وإنْ ظَنَّ حصوله قَبْلها فليس بمول قَطْعًا. وإنْ شك فوجهان، أصحهما كذلك.
ولو شك في المذبوح: هل فيه حياة مستقرة؟ أو لا؟ فإنْ غَلَب على ظنه بقاؤها، حَلَّ، وإلَّا حَرُم؛ للشك في المُبِيح.
وقالوا في القاضي: يَقْضي بِعِلْمه وبِغَلَبة الظن باستصحاب الحال، وعند الشك المستوِي لا يَقْضي.
وفي الأكل مِن مال مَن يغلب على ظنه الرِّضَا: يَحِلُّ، دُونَ مَن يَشُك.
وغَيْر ذلك مما لا ينحصر.
وقولي: (وَإنْ يَكُنْ غَيْرَ مُطابِقٍ) إلى آخِره - هذا هو المحترز عنه بالقيد الثاني، وهو المطابقة لِمَا في الخارج، فَغَيْر المطابِق مع الجَزْم هو الاعتقاد الفاسد، ويُسَمَّى "الجهْل المُرَكَّب"؛ لأنه مُرَكَّب مِن عَدَم العِلم بالشيء واعتقادٍ غَيْرِ مطابِقٍ، وهذا كاعتقاد المعتَزلي أنَّ الله تعالى لا يُرَى في الدار الآخِرة.
وسَواءٌ في هذا القِسم:
- ما اعتقده تقليدًا، كما في اعتقاد بعض الكفار الذين حَكَى الله تعالى قولهم: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].
-[أو] (¬1) اعتقده بشيء باطلٍ ظَنَّه دليلًا، كما في رؤوس المبتدعة وكثير مِن الكفار يَحْسبون أنهم على شيء إلَّا أنهم هُم الكاذبون.
¬__________
(¬1) في (ش): وان.
من أبي سلمة. ثم ذكر أن بينهما سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير، وأن هذا وَجْه الحديث.
وممن ذكر هذا القسم أيضاً الماوردي والروياني، قال ابن الصلاح: إنَّ هذا القسم مكروه جدًّا، ذَمَّه أكثر العلماء، وكان شُعبة مِن أشدهم ذَمّاً له، قال مرةً: "التدليس أخو الكذب"، ومرة: "لأنْ أزني أحبُّ إلَيَّ مِن أنْ أُدَلِّس"، وهذا منه إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه.
والصحيح فيه التفصيل بين ما رواه بلفظ محُتمل لم يُبيِّن فيه السماع والاتصال فكالمرسل، وما بين كـ "سمعت" و"حدثنا" و"أخبرنا" فمقبول محتج به، وهو واقع مِن كثير مِن الرواة في الصحيحين وغيرهما كقتادة والأعمش والسُفيانين وهُشَيم بن بشير وغيرهم؟ وذلك لأنه ضربٌ من الإيهام، لا كذب.
وطرد الشافعي ذلك فيمن دَلَّس مَرَّة، وكذا قال إلْكِيا الطبري: مَن قَبِل المراسيل، لم يَرَ للتدليس أثرًا إلَّا أنْ يُدلّس -لضعفٍ- عمن سمع منه، فلا يُعمَل به إلَّا أن يقول: "حدثني" أو "أخبرني" أو "سمعتُ".
وحُكي عن الشافعي أيضا نحو ذلك.
وذهب فريقٌ من أهل الحديث والفقهاء إلى الجرح بهذا التدليس مطلقاً ولو بَيَّنَ سماعَه، وإنما لم أذكر هذا القسم في النَّظم لِمَا عُلِمَ مِن كَوْنه قادحًا عند عدم التصريح بالسماع، فيخرج بالمفهوم؛ لأنه خارج عما ذكرنا قبول التدليس فيه، وأما عند التصريح فيخرج عن كونه تدليساً.
وأما القسم الذي بَدأتُ به وسبق شرحه فقال ابن الصلاح: (إنَّ أَمْرَه أخَف، وفيه تضييع للمروي عنه، وتوعيرٌ لطريق معرفته على مَن يطلب الوقوف على حاله وأهليته، ويختلف الحال في كراهته بحسب الغَرض الحامل عليه، فقد يَحمِلُ عليه كَوْن الشيخ غير
ثم وراء كون المقدم أَخَص من التالي وأنه لا يَلزم مِن انتفائه انتفاؤه أن التالي قد يكون ثابتًا باعتبار أن المقدم المنفي بِـ "لو" [قد اقتضى ثبوته بأن] (¬1) كان المنفي في المقدم مناسبًا له إما بطريق الأولوية أو المساواة أو الأَدْوَبيَّة.
ولكلٍّ مثال:
فمثال الأول: قول عمر - رضي الله عنه -: "نِعْم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه" (¬2). فدخلت "لو" فيهما وهُما نفي؛ فاقتضت امتناع أولاهما وهي الشرط، فصارت مثبتة؛ لأن نَفْي النفي إثبات، فيثبت الخوف، وهو مناسب لثبوت التالي الذي هو نَفي العصيان بالأولوية على حال عدم الخوف وهو الإجلال؛ لأن مَن لا يخاف إذا كان لا يعصي إجلالا فَلأنْ لا يعصي عند الخوف من باب أَوْلى. فَلِعَدَم العصيان سببان: الإجلال، والخوف. فإذا كان يوجد مع الإجلال وإن لم يكن خوف فمع الخوف أَوْلى.
ومثل هذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآية، فعدم النفاد ثابت على تقدير كون ما في الأرض من الشجر أقلامًا وسبعة أبحر تمد البحر الذي يمد منه، فثبوت عدم النفاد على تقدير عدم ذلك أَوْلى.
وكذا: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] يقتضي أنه ما عَلِم فيهم
¬__________
(¬1) في (ص): لا يقتضي ثبوت التالي له وان.
(¬2) قال الإمام السخاوي في (المقاصد الحسنة، ص 701): (حَدِيث: "نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، لَوْ لَمْ يَخَفِ الله لَمْ يَعْصِهِ" اشتهر في كلام الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية من حديث عمر، وذكر البهاء السبكي أنه لم يظفر به في شيء من الكتب، وكذا قال جمعٌ جم من أهل اللغة، ثم رأيت بخط شيخنا أنه ظفر به في "مشكل الحديث" لأبي محمد بن قتيبة، لكن لم يذكر له ابن قتيبة إسنادًا، وقال: أراد أن صهيبًا إنما يطيع الله حُبًّا، لا لمخافة عقابه).
فلذلك قال بأنه عام لا تخصيص فيه. ولذلك لو قال رجل: (نساء العالم طوالق)، لم تطلق امرأته على أحد الوجهين.
ولذلك رد الصيرفي اعتراض ابن داود وابن أكثم وابن أبي داود على الشافعي ادِّعاء بقاء ذلك على عمومه بأنَّ هؤلاء جهلوا الصواب وذهلوا عن اللغة؛ لأن رجُلًا لو كان مِن أهل بغداد فقال: (أطعمتُ أهل بغداد جميعًا)، لا يقال له: خرجتَ بتخصيص. بل يقال: لَمْ تدخل؛ لأنك المطْعِم وهُم المطعَمون سواك.
ثانيهما: أن لفظ "شيء" يطلَق على الله عز وجل، وهو أحد المذهبين.
ومأخذ المنع إما عدم الإذن؛ فالأسماء توقيفية، وإما أنَّ "شيئًا" مصدر أُطلِق على المفعول، فهو بمعنى "مشيء"، و"المشيء" مُحْدَث، فلا يُطلق على القديم "شيء".
وأما قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] فليس بصريح؛ لجواز أن لا يوقف على الجلالة، بل يكون مبتدأ، وما بَعده الخبر.
فإنْ قيل: فقد قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] وعِلمه تعالى قديم، فلو كان "شيء" بمعنى "مشيء"، لكان يلزم حدوث عِلمه تعالى.
قيل: يجوز أنْ يكون أطلق العِلم بمعنى المعلوم؛ فلَم يقع إطلاق "الشيء" على نفس العلِم الذي هو قديم.
وقد بَطُل بذلك قول ابن داود: إنه يَلزم على الشافعي أن يكون عِلم الله تعالى مخلوقًا.
وقد سَفَّه الأئمة اعتراضه ووَهّوه بأمور كثيرة. وفيما ذكرناه كفاية.
وكذلك اعترض ابن داود على الشافعي في جَعْلِه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] مِن العام الذي لم يخصص بأنَّ مِن الدواب مَن أفناه الله قبل أنْ يرزقه.
وردَّه الصيرفي بأن ذلك خطأ؛ لأنه لا بُدَّ له مِن رزق يقوم به حياته ولو بِنَفَس يأتيه به.
وأنَّ الشافعي - رضي الله عنه - وإمام الحرمين والإمام الرازي وجَمعًا يجعلونه من باب القياس. وقد نصب الإمام في "المحصول" وأتباعه أدلة ذلك هنا. والله أعلم.
ص:
887 - وَمنْهُ مَا يُسْمَى "قِيَاسَ الْعِلَّةِ" ... أَيِ: الَّذِي فِيهِ صَرِيحًا أَتَتِ
888 - أَمَّا الَّذِي يُعْرَفُ بِـ "الدّلَالَةِ" ... أَيْ: بإضَافَةٍ لَهُ في الجمْلَةِ
889 - فَهْوَ بِلَازِمٍ لَهَا، فَالَاثَرِ ... فَمَا بِحُكْمٍ أَلْحَقُوا مُعْتَبَرِ
890 - وَالْجَمْعُ إنْ يَكُنْ بِنَفْيِ الْفَارِقِ ... "قِيَاسُ مَعْنَى الْأَصْلِ"، ذَا لِلْحَاذِقِ
الشرح:
هذا هو التقسيم الثاني للقياس باعتبار المعنى الجامع فيه، وهو انقسامه إلى: قياس عِلة، وقياس دلالة، وقياس في معنى الأصل.
وذلك لأنه إما أن يكون بِذِكر الجامع أو بإلغاء الفارق.
فإنْ كان بذكر الجامع، فذلك الجامع إنْ كان هو العلة فهو "قياس العلة". وهو معنى قولي: (الَّذِي فِيهِ صَرِيحًا أَتَتِ).
وذلك كقولنا في القتل بالمثقل: قَتْل عمد عدوان؛ فيجب فيه القصاص، كالجارح.
وإنْ لم يكن الجامع نفس العلة وإنما هو وصف لازِم للعلة أو أثَر مِن آثارها أو حُكم مِن أحكامها، فهو "قياس الدلالة". وإليه أشرت بقولي: (أَيْ: بإضَافَةٍ لَهُ). أي: بإضافة لفظ "قياس" إلى لفظ "دلالة"، فيقال: "قياس الدلالة". سُمي بذلك لكون المذكور في الجامع بينهما دليل العِلة، لا نَفْسها.