ص:
39 - فَإنْ يَكُنْ [ذَا] (¬1) بَعدَ عِلْمٍ وُجِدَا ... فَـ "السَّهْوَ" يُسْمَى، وبِطُولٍ في المَدَى
40 - يَكُونُ "نِسْيَانًا"، فَكُلُّ قِسْمِ ... أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ في الرَّسْمِ
الشرح: هذا تقسيم للجهل البسيط إلى ثلاثة أقسام: سَهْو، ونسيان، وغيرهما.
وذلك أنه إنْ سَبقه إدراك ثُمَّ زال، سُمِّيَ سَهْوًا. وإنْ لا، فَلَا.
والأولُ إنْ قَصُرَ فيه زمانُ ذهابِ الإدراك، اشتهر تسميته "سَهْوًا"، وربما سُمي "غَفْلةً"؛ ولهذا قال الجوهري: (السهو: الغفلة) (¬2). وإنْ طال زمانه وامتد، سُمِّي - مع كَوْنه سَهْوًا - "نسيانًا"؛ لاستحكام الغفلة فيه بالطول، فهو أَخَص مِن مُطْلَق السهو، ومُطْلَق السهو أَخَص مِن مُطْلَق الجهل البسيط.
وهو معنى قولي: (فكُلُّ قِسْم أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ في الرَّسْمِ)، أَيْ: في رَسْمه وتعريفه الذي يُعَرَّف به، وهذا أَحْسَنُ ما فُرَّق به بَيْن "السهو" و"النسيان" كما يُؤخَذ ذلك مِن استقراء استعمال اللفظين في كلام العَرَب.
ومنهم مَن فَرَّق بينهما بأنَّ "النسيانَ" عَدَمُ ذِكْر ما كان مذكورًا، و"السهو" غَفْلةٌ عمَّا كان مذكورًا وعمَّا لَمْ يَكُنْ مذكورًا؛ فَعَلَى هذا "النسيان" أخَصُّ مِن "السهو" مُطْلَقًا، فهو باعتبار آخَر غير الأول.
ومنهم مَن يُفَرِّق بِغَيْر ذلك، وهو كثير، فلا حاجة للتطويل به.
وذهب كثير إلى أنَّ معناهما واحد. قال القاضي عياض في "المشارق": (السهوُ في
¬__________
(¬1) كذا في (ش، ض، ت، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). وفِى (ز، ص، ق): من.
(¬2) الصحاح تاج اللغة (6/ 2386).
المقصود.
الصورة الثالثة: أن يأتي في التحديث بلفظ يُوهِم أمرًا لا قدح في إيهامه ذلك، كقوله: (حدثنا وراء النهر) موهِمًا أنه نهر جيحون وهو يريد به نَهر عيسى ببغداد أو الجيزة ونحوها بمصر، فلا حرج بذلك. قاله الآمدي (¬1)؛ لأنَّ ذلك من باب الإغراب، وإنْ كان فيه إيهام الرحلة إلا أنه صِدقٌ في نفسه، ونحوُه أنْ يقول: (حدثني فلان بِالعراق) يريد موضعًا بِإخْمِيم (¬2)، أو: (بِزَبِيد) (¬3) يريد موضعًا بِقُوص (¬4)، أو: (بِحلب) يريد موضعًا متصلًا [بالقارة] (¬5).
قولي: (مُوهِمًا رِحْلَةً اوْ إدْرَاكَا) أي: أو موهما إدراك مَن لم يُدركه وقد عُرف أنه لم يدركه، فلا يضر، غايته أن يكون الحديث منقطعًا والثقات تروي المنقطع ولا يقدح ذلك فيهم، وهذا هو المحترز عنه فيما سبق في تعريف "تدليس الإسناد": "أن يروي عمن لقيَه أو عاصره ما لم يسمع منه"، إذْ مفهومه أنه إذا لم يُعاصره ولا لقيه أنه غير [مُدلس] (¬6) على الصحيح المشهور، وحكى ابن عبد البر في "التمهيد" عن قومٍ أنه تدليس، قال: فعلى هذا لا يَسْلم مِن التدليس أحد، لا مالك ولا غيره. والله أعلم.
¬__________
(¬1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 90).
(¬2) بلد قديم على شاطئ النيل بالصعيد. (معجم البلدان، 1/ 123).
(¬3) مدينة مشهورة باليمن. (معجم البلدان، 3/ 131).
(¬4) مدينة كبيرة قصبة صعيد مصر. (معجم البلدان، 4/ 413).
(¬5) كذا في جميع النُّسخ، وقد تكون: (بالقاهرة)؛ لأنَّه جاء في (معجم البلدان، 2/ 290): "حلب " أيضًا محلة كبيرة في شارع القاهرة بينها وبين الفُسطاط).
(¬6) كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: تدليس.
نعم، في "الحلية" لأبي نعيم -في ترجمة "سالم مولى أبي حذيفة" بسند فيه ابن لهيعة- أن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن سالمًا شديد الحب لله عز وجل، لو لم يخف الله لم يعصه" (¬1).
ومن جهته أورده صاحب "الفردوس"، فيحصل الغرض في التمثيل بذلك.
وأما [مثال] (¬2) الثاني وهو: "لو لم تكن ربيبتي في حجري" فإنه في "الصحيحين".
الثاني من معاق "لو": التمني، نحو: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [الشعراء: 102]. أي: فليت لنا كرة، ولهذا ينصب المضارع في جواب "لو" كما ينصب في جواب "ليت".
ثم اختُلف في هذه، فقيل: إنها الامتناعية، أشربت معنى التمني.
وقيل: قسم برأسه.
وقيل: إنها المصدرية، أغنت عن التمني، لكونها لا تقع غالبًا إلا بعد مفهم تَمَنٍّ. واختار هذا القول ابن مالك، وغلط الزمخشري في عَدِّها حرف تَمَنٍّ، لمجيئها مع فِعل التمني في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، ولو كانت للتمني لَمَا جمع بينهما، كما لا يُجْمَع بين ["ليت"] (¬3) وفِعل تَمَنٍّ.
وأُجيبَ بأن حالة دخول فِعل التمني عليها لا تكون حرف تمنٍّ، بل مجردة عنه، وهو مراد الزنحشري وغيره ممن أثبتها للتمني.
الثالث: العَرْض، نحو: لو تنزل عندنا فتصيب خيرًا.
¬__________
(¬1) حلية الأولياء (1/ 177) بلفظ: "إِنَ سَالِمًا شَدِيدُ الحبِّ لله عَزَّ وَجَلَّ، لَوْ كَانَ لَا يَخَافُ اللهَ- عَزَّ وَجَلَّ - مَا عَصَاهُ".
(¬2) في (ق، ظ، ض): بيان.
(¬3) في (ق، ت): ليت ولعل.
الرابع: قولي في النَّظم: (كَـ "أُوبيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ") هو بتسكين الياء بلا همز تخفيفًا؛ لإقامة الوزن، أو لتقدير الوقوف عليه مع مراعاة الوزن.
وقولي: (أيْ: سِوَاهُ) هو بحذف همزة "أي"؛ لضرورة النَّظم أيضًا. والله تعالى أعلم.
ص:
648 - وَالسَّمْعُ مَا أَذْكُرُ مفَصَّلَا ... [فَلِلْكِتَابِ] (¬1) بِكِتَابٍ أُنزِلَا
649 - خُصَّ [اعْتِدَاءٌ بِـ "قُرُوءٍ" تُتْلَى] (¬2) ... بِوَضْعِ حَمْلٍ في "أُولَاتُ" نَقْلَا
الشرح:
الثالث من المخصصات المنفصلة: التخصيص بالسمع.
وله أقسام يأتي ذكرها على التفصيل:
الأول: تخصيص الكتاب بالكتاب، وهو مِن تخصيص قَطعي المتن بقطعيِّه.
ومثاله قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، خُصَّ عمومه للحوائل والحوامل بقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
وخُصَّ أيضًا عمومه في المدخول بها وغيرها بقوله تعالى في غير المدخول بها: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].
¬__________
(¬1) في (ص): فلكتاب.
(¬2) في (ت، س): (اعتدادها بقرْء يُتلى)، ومعه يصح الوزن أيضًا. لكن في (ق، ن 3): (اعتداد بقرْء تتلى)، ولا يصح معه الوزن.
خاتمة في الأدلة المختلَف فيها
891 - مِنْ ذَاكَ: "الِاسْتِقْرَاءُ" في الْمَرْضِيِّ ... تَتَبُّعُ الْكُلِّيْ مِنَ [الْجُزْئِيِّ] (¬1)
892 - لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ لِذَاكَ الْكُلِّي ... فَمَا يُرَى مُسْتَوْعِبًا لِلْكُلِّ
893 - لَا صُورَةِ النِّزَاعِ، ذُو [تَمَامِ] (¬2) ... وَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ في الْأَحْكَامِ
894 - وَمَا بِهِ تَتبُّعٌ لِلْأَكثَرِ ... فَنَاقِصٌ يُفِيدُ ظَنَّ الْمُكْثِرِ
895 - وَرُبَّمَا سُمِّيَ في الْمُغَلَّبِ ... إلْحَاقَ فَرْدٍ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَب
الشرح:
لما انتهى الكلام في الأدلة المتفق عليها وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، [تشوقت] (¬3) النفوس إلى بيان ما وراء المتفق عليه، وهو "الأدلة المختلف فيها"، فجعلت ذلك خاتمة للكلام في أدلة الفقه.
فمن ذلك: "الاستقراء"، وهو: تَتَبُّع أمر [كُلى] (¬4) من جزئيات؛ ليثبت الحكم لذلك الكُلي.
وهو نوعان: استقراء تام، واستقراء ناقص.
فأما "التام" فهو إثبات حُكم في جزئي؛ لثبوته في الكُلي. نحو: "كل جسم متحيز"، فإنَّا
¬__________
(¬1) في (ق، ن 1، ن 2): جزئي. ويصح الوزن بضبط الشطر الثاني هكذا: تَتَبُّعُ الْكُلِّيِّ مِنْ جُزئِيِّ.
(¬2) في (ت، س، ن 2): اتمام.
(¬3) في (ت، ض): تشوفت.
(¬4) في (ق): كل واحد.