الشرح:
ما سبق من الصور الثلاث هو الذي لا جَرح فيه كما عَلمته، وأما هذا القسم فهو الذي يكون جرحًا، وقد سبق القسم الذي بدأ به ابن الصلاح وأنه جرح في بعض أحواله، فَيُضم إلى هذا.
نعم، لم يذكر ابن الصلاح هذا القسم الذي ذكرناه هنا فيما يسمى تدليسًا، بل أفرده بنوع آخَر، وهو المسمَّى بِـ "المدرج "، وإليه أشرت بقولي: (الْمُدْرِجُ) بكسر الراء اسم فاعل، و (مَرْوِّيهُ) مفعوله، فالراوي للحديث إذا أدخل فيه شيئًا من كلامه أولًا أو آخِرًا أو وسطًا على وجه يُوهِم أنه من جملة الحديث الذي رواه -وهو المراد بقولي: (فَيَمْزُج مِنْ غَيْر تَمْيِيزٍ) - يُسمَّى هذا "تدليس المتون"، وفاعله مجروح إن كان فَعَله عن قصدٍ؛ لِمَا فيه من الغش. أما لو اتفق ذلك من صحابي أو غيره من غير قصدٍ، فلا.
ومن هذا النوع كثير في الحديث أفرده بالتصنيف الخطيب البغدادي، فشفَى وكَفَى.
فمن أمثلته المشهورة حديث ابن مسعود في التشهد، قال في آخره: "فإذا قلت هذا، فإنْ شئتَ أنْ تقوم فَقُم، وإنْ شئتَ أنْ تقعد فاقعد" (¬1) وهو من كلامه، لا مِن متن الحديث المرفوع. قاله البيهقي والخطيب.
¬__________
(¬1) سنن أبي داود (رقم: 970). قال الألباني: (شاذ بزيادة: "إذا قلت ... "، والصواب أنه من قول ابن مسعود موقوفاً عليه). (صحيح سنن أبي داود: 970).
الرابع: التحضيض، وقَلَّ مَن ذكره، إنما ذكره العكبري في "الشامل"، ومَثَّله بنحو: (لو فعلت كذا يا هذا)، بمعنى: افْعَل.
والفرق بينه وبين العَرْض أنه طلب بِحَثٍّ، والعَرْض طلب بِلِين.
الخامس: التقليل، ذكره ابن هشام الخضراوي وابن السمعاني في "القواطع"، نحو: "التمس ولو خاتما من حديد" (¬1)، "اتقوا النار ولو بشق تمرة" (¬2)، "تصدق ولو بظِلف محرق" (¬3)، وهو أشد في التقليل.
و"الظِّلف" -بكسر الظاء المعجمة- من البقر والغنم كالحافر من الفرس. وهذا معنى قولي: (كَذَلِكَ التَّقْلِيلُ)، أي: في مقام ذكر التعويض أنه يكتفي بذلك؛ لحقارته، وتعوض الكثير من فضل الله عز وجل، والله أعلم.
ص:
514 - وَ"لَنْ" لِنَفْيِ مَا يُرَى مُسْتَقْبَلَا ... أَمَّا لِتَأْكِيدٍ وَتَأْبِيدٍ فَلَا
الشرح: "لن" من نواصب المضارع لكنها لنفي المستقبل؛ فلذلك تخلصه للاستقبال، ولا [تفيد] (¬4) مع ذلك تأكيدًا في [نفيها] (¬5) ولا تأبيدًا له، خلافًا للزمخشري فيهما، الأول صرح به
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (4829).
(¬2) صحيح البخاري (1351)، صحيح مسلم (1016).
(¬3) مسند أحمد (27491)، صحيح ابن حبان (3374)، وغيرهما، بِنَحْوِه، ولفظ أحمد: (لا تردوا السائل ولو بظلف محرق).
(¬4) في (ظ): يقيد.
(¬5) في (ق، ظ): نفسها.
ونحوه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] الآية، خُصَّ بقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
وكذا قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] خُصَّ بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5].
تنبيهات
الأول: المخالف في هذه المسألة بعض الظاهرية، تمسكوا بأنَّ التخصيص بيان للمراد باللفظ؛ فلا يكون إلا بالسّنة؛ لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وما ذُكر مِن الأمثلة يجوز أن يكون التخصيص فيه بالسُّنة.
كما في حديث أبي السنابل بن بعكك مع سبيعة الأسلمية حين قال لها: ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشرًا. فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأفتاها بأنها حَلَّت بوضع حملها (¬1).
وأجيب بأنه لا يخرج عن كونه مُبيِّنًا إذا بَيَّن ما أُنزل بآية أخرى مُنزَّلة كما بيَّن بما أُنزل عليه مِن السُّنة، فإنَّ الكل مُنزَّل.
وأيضًا فالاستدلال على مُدَّعاهم بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} مُعارَض بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فإنه يقتضي أن القرآن أيضًا مُبيِّن لجميع الأشياء ومن جُملتها الكتاب، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مُبيِّن تارة بالكتاب وتارة بالسُّنة.
¬__________
(¬1) سبق تخريجه.
استقرأنا جميع جزئيات الجسم فوجدناها منحصرة في الجماد والنبات والحيوان، وكُل مِن ذلك متحيز.
فقد أفاد هذا الاستقراء الحكم يقينًا في كُلِّي وهو الجسم الذي هو مشترك بين الجزئيات. فكل جزئي من ذلك الكلي يُحكم عليه بما حُكم به على الكُلي إلا صورة النزاع؛ فيُستَدل بذلك على صورة النزاع، وهو مفيد للقطع، فإنه القياس المنطقي المفيد للقطع عند الأكثرين.
قال الهندي: وهو حُجة بلا خلاف.
وأما "الاستقراء الناقص": فهو الذي تُتُبِّع فيه أكثر الجزئيات؛ [لإثبات] (¬1) الحكم للكُلي المشترك بين جميع الجزئيات بشرط أنْ لا تتبين العلة المؤثرة في الحكم.
ويسمى هذا عند الفقهاء بِـ "إلحاق الفرد بالَأعَم الأَغْلَب"، ويختلف فيه الظن باختلاف الجزئيات، فكلما كان الاستقراء في أكثر، كان أقوى ظنًّا.
وقد اختُلف في هذا النوع، فاختار صاحب "الحاصل" والبيضاوي والهندي أنه حجة لكنه يفيد الظن، لا القطع؛ لاحتمال أن يكون ذلك الجزئي مخالفًا لباقي الجزئيات المستَقْرَأة.
وقال الإمام الرازي: الأظهر أنه لا يفيد الظن إلا بدليل منفصل، ثم بتقدير الحصول يَكون حُجة.
وبهذا يُعلم أنَّ الخلاف الواقع: في أنه يفيد الظن أوْ لا؟ [أن] (¬2) الظن المستفاد منه هل يكون حجة؟
¬__________
(¬1) في (ق): فيثبت.
(¬2) كذا في جميع النُّسخ، ولعلها: (لا أنَّ). وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 4/ 321): (وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّ الخلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي أنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الظَّنَّ؟ أَمْ لَا؟ لَا فِي أَنَّ الظَّنَّ المُسْتَفَادَ مِنْهُ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً؟ أَمْ لَا؟ ).