فَأَوَّل أقسام المُوجِبِ المُفْرَدِ: الحِسُّ الظاهرُ، أَيْ: يَكون المُدْرِكُ لِلشيء إحدَى الحواس الخَمْس التي هي: البَصَر، والسَّمْع، والذوق، والشَم، واللمس. كإدراك كَوْن الشمس مضيئة وأنَّ صَوْتَ البلبُل حَسَنٌ دُونَ صوت الحمار، وأنَّ ريح الوَرْد طيب، وطَعْم العسل حلوٌ، وأنَّ القطنَ لَيِّنٌ.
ويُسَمَّى العِلم بشيء مِن هذه الخَمْس "العِلْم الحِسِّي"، سواء قُلْنَا: إنَّ نَفْس الحواس مُدرِكة، أو المُدْرِكَ النَّفْسُ بواسطتها، على الخلاف في ذلك. ومنهم مَن أَنْكَر إفادةَ الحواسِّ اليقين، وهو مباهتة، وتَعَلَّقُوا في ذلك بِشُبَه ضعيفة.
وَجَعْلُ الإدراك بِالحِس مِن قبيل العلوم هو قَوْل الأشعري، خِلَافًا لِمَن خَصَّ العِلم بالمعنوي [وهو الأمر الكُلِّي، لا الحسي] (¬1).
الثاني: الحسُّ الباطن، كإحساس الإنسان بحصول عِلْم شيء، وبحصول جوع أو عطش، ويُسَمَّى هذا النوع "العِلْم الوِجْداني"؛ نِسْبَة إلى الوِجدان، أَيْ: الوجود النفساني.
وكُلٌّ مِن [المحسوس] (¬2) بالظاهر والباطن يُسَمى "المشاهَدة"، ويقال لقضاياهما: المشاهَدات.
الثالث: العقل الصَّرْف، وهو معنى قولي: (عَقْلٌ دُونَ شَيْءٍ ضُمَّا)، أَيْ: بدون شيء انضم إليه العِلم. وهذا ضربان:
أحدهما: أنْ يَكون ببديهة العقل، وهو القضية التي يجزم العقل بها بِمُجَرَّد تَصَوُّر الطرفين الموضوع والمحمول، سواء أكان تَصَوُّر كُل مِن طَرَفَيْها بِضَرورة أو بِنَظَر، فهي أربعة أقسام.
¬__________
(¬1) في (ز، ظ): لا بالحسي.
(¬2) في (ز، ظ): المحسوسين.
تنبيهات
أحدها: فسر الماوردي والروياني وابن السمعاني مُدلِّس المتون بأنه مَن يُحرِّف الكلم عن مواضعه، وكأنَّ مرادهم التقديم والتأخير المُخِل بالمعنى، أو يأتي بما يُغير المعنى بوجهٍ ما. وأما ما سبق من تسمية الإدراج تدليسًا فهو ما قاله أبو منصور البغدادي.
الثاني: مِن أقسام التدليس ما هو خفي، كما ورد في بعض الروايات عن الحسن البصري أنه قال: (حدثنا أبو هريرة)، فقال قوم: لم يسمع من أبي هريرة، وإنما أراد بقوله: (حدثنا): حدَّث أهل بلدنا. وقال قوم: لم يَقُم دليل قاطع على عدم سماعه منه، فلا تدليس.
ومن الخفي أيضا قول [أبي] (¬1) إسحاق: (ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه). فظاهره أنَّ المراد سماعه من عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، ولم يَقُل قَبْله: (ليس أبو عبيدة ذكره). نَبَّه على ذلك ابن دقيق العيد في "الاقتراح"، قال: (وللتدليس مفسدة، وله مصلحة. المفسدة: قد يخفى ويصير الراوي مجهولًا؛ فيسقط العمل به مع كونه عَدْلا. وأما المصلحة فامتحان الأذهان في استخراج التدليسات وإلقاء ذلك إلى مَن يُراد اختبار حِفظه ومعرفته بالرجال) (¬2).
ومن التدليس أيضًا: ما يُعرف بِ "تدليس التسوية"، ولم يذكره ابن الصلاح، وهو شَرُّ الأنواع، وهو أن يروي حديثاً عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة، فيأتي المدلس بالثقتين ويُسْقِط الضعيف بلفظ محتمل، وهو غرور شديد. وممن نُقِل عنه فِعْله بقية
¬__________
(¬1) في جميع النُّسخ: ابن. والتصويب من (الاقتراح، ص 289)، الناشر: دار العلوم - الأردن، ط: أولى- 2007 م.
(¬2) الاقتراح في بيان الاصطلاح (ص 21).
ولكنه أَبلغ مِن نفْي "لا"، ألا ترى أنه [مستعمل] (¬1) في المواضع التي يستمر عدم الاتصال فيها، كقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، أي: إلى آخِر الدنيا. ومِثله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47]؛ لأنَّ خُلْف الوعد على الله تعالى مُحَال.
ووافقه أيضًا صاحب "التبيان" على أن النفي بها أوكد.
وزعم ابن عصفور أنها تَرِد للدعاء، نحو: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17]. والصحيح عند ابن مالك وغيره أنه لم يستعمل في الدعاء إلا "لا" خاصة، ولا حُجة له فيما سبق؛ لاحتمال أن يكون خبرًا, ولأن الدعاء لا يكون للمتكلم. والله أعلم.
ص:
515 - وَ"مَا" كَـ"مَنْ" لِلشَّرْطِ وَاسْتِفْهَامِ ... نَكِرَةٌ بِوَصْفٍ اوْ تَمَامِ
516 - مَوْصُولَةٌ، وَ"مَا" فَقَطْ لِلنَّفْيِ ... وَقَدْ تُزَادُ في كثِيرٍ يُعْنِي (¬2)
الشرح:
"ما" مثل "مَن" في المعاني المذكورة، وتنفرد "ما" عنها بما سنذكره.
فمِمَّا يشتركان فيه أمور:
أحدها: الشرطية: زمانية، نحو: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وغير زمانية، نحو: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، ونحو: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: يستعمل.
(¬2) (عَنِيَ) بِالْكَسْرِ عَنَاءً أَيْ تَعِبَ وَنَصِبَ. (مختار الصحاح، ص 192). وقال المؤلف في شرحه: (يُعْنِي طالبهُ؛ لكثرته).
ورواه النسائي في "سُننه الكبرى" من حديث أبي بكر بلفظ: "إنَّا معاشر الأنبياء لا نُورث" (¬1).
فقول الذهبي: (إنه ليس في شيء من الكتب الستة) صحيح؛ لأن المعدود منها "النسائي الصغير" المسمى بِـ "المجتبى"، وليس الحديث فيه.
وكحديث: "ليس للقاتل من الميراث شيء" (¬2). وقد رواه النسائي والترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة بلفظ: "القاتل لا يرث" (¬3)، وأبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "لا يرث القاتل شيئًا" (¬4). وفي رواية "ليس لقاتل ميراث" (¬5). وطُرق الحديث وإنْ كان فيها ضَعف -مِن جهة أنَّ راويه إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة متروك عند بعض أهل العلم ومن جهة غيره أيضًا- فهي تُقوي بعضها بعضًا.
¬__________
(¬1) سبق تخريجه.
(¬2) سنن النسائي الكبرى (رقم: 6367)، سنن الدارقطني (4/ 96)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 12021). قال الحافظ ابن الملقن في كتابه (تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج، ص 27): (هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن غير الشاميين، وَهُوَ ضَعِيف فِيهَا عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره). وقال الألباني: صحيح لغيره. (إرواء الغليل: 1671).
(¬3) سنن الترمذي (رقم: 2109)، سنن ابن ماجه (رقم: 2735)، سنن الدارقطني (4/ 96)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 12023). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 2109).
(¬4) سنن أبي داود (رقم: 4564)، سنن البيهقي الكبرى (12020). قال الألباني: حسن. (صحيح أبي داود: 4564).
(¬5) مصنف عبد الرزاق (17783)، سنن ابن ماجه (رقم: 2646)، سنن الدارقطني (4/ 95) وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 2158).
يُعرف، قال السبكي: (سألت عنه شيخنا الحافظ الذهبي فلم يَعْرفه) (¬1).
قلت: وكذا قال الحافظ المزي وغيره: إنه لا أصل له.
لكن قال شيخنا بدر الدين الزركشي أنَّ شيخه الحافظ علاء الدين مغلطاي أفاده أنَّ الحافظ أبا طاهر إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجَنزوِي رواه في كتابه "إدارة الحكام" في قصة الكندي والحضرمي اللذين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصل حديثهما في "الصحيحين"، فقال المقضِي (¬2) عليه: قضيتَ عَلَيَّ والحقُّ لي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أقضي بالظاهر، والله يتولى السرائر".
وله شواهد، منها حديث قوله - صلى الله عليه وسلم - في المتلاعنين: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" (¬3). وهو في "الصحيح" (¬4).
[و] (¬5) حديث أُم سلمة في "البخاري": "إنما أنا بَشر، وإنه يأتيني الخصم، فلَعَلَّ بعضكم أَبْلَغ مِن بعض، فأحسب أنه أَصْدَق؛ فأقضِي له بذلك. فمَن قضيتُ له بحق مُسْلم فإنما هي
¬__________
=وقال الإمام الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، ص 200): (حديث: "نحن نحكم بالظاهر" يحتج به أهل الأصول، ولا أصل له).
(¬1) الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 182).
(¬2) قصة الحضرمي والكندي: صحيح مسلم (رقم: 139).
(¬3) مسند أحمد (2131)، سنن أبي داود (2256)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 2256).
(¬4) صحيح البخاري (رقم: 4470) بلفظ: (لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن).
(¬5) كذا في (ق) وهو الصواب، لكن في سائر النسخ: من.