كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

مثاله قَوْلنا: (الكُل أعْظَم مِن الجُزْء)، و (الواحد نِصف الإثنين). وتُسَمَّى القضايا المعلومة بذلك "الأوليات"؛ نِسْبَة إلى الأول؛ لحصولها أَوَّلًا مِن غير تَوَقُّفٍ على قضية أخرى، بخلاف النظريات كما سيأتي.
ويلحق بهذا القِسْم ما هو كالبديهي، وهي القضايا التي قياساتها معها، وذلك بأنْ يَحْكُم العقل بها بواسطة لا يغفُلُ عنها الذهن عند تَصَوُّر حدود تلك القضايا المحكوم عليه وبه فيها. كقولنا: (الأربعةُ زوجٌ)؛ لانقسامها بمتساويين؛ فإنَّ الانقسام بمتساويين وسطٌ حاضرٌ في الذهن دائمًا عند تَصَوُّر الأربعة والزوجيَّة؛ فلذلك قِيل فيها: إنَّ قياساتها معها. فَمِن حيث إنَّ لها دليلًا - هي نظرية، ومِن حيث إنه معه في العِلم - بديهية، وهذا يَغْلب فيها؛ ولذلك تُسَمَّى "القضايا الفِطْرِيَّة"؛ لأنَّ عِلْمها بالفطرة.
فقَوْلي: (أو إنْ يَكُنْ قِياسُهُ مَعْهُ) ينبغي أنْ يَكون عَطْفًا على تفسير البديهي بِقَوْلي: (أَيْ تُلْفِي)، أَيْ: تَجِد يَأَيُّها المخاطَبُ تَصَوُّرَ الطرفين كافِيًا في حصول العِلْم، أو إنْ كان قياسُه معه فهو أيضًا بديهي.
وقَوْلي بَعْده: (أَمَّا بِالنَّظَرْ) هو بِفَتْح الهمزة، أَيْ: أمَّا إذا كان حصول العِلْم بالعقل الصِّرف إنما هو [بالنظر] (¬1) والتفكْر المؤدِّي إليه، فهذا هو الضرب الثاني مِن المستفاد بالعقل، وهو "العِلم النظري"، وذلك كل قضية يَقُوم عليها البرهان، نحو: "العَالَم حادِث؛ لأنَّ العالَم مُتَغَيَّر، وكُل مُتَغَيِّر حادث"؛ فأنتج المطلوب، والعِلْم حينئذ يحصل عند الدليل، لا بِهِ - كما تَقَدَّم تقريره، لا أنه متولِّد منه كما يقوله المعتزلة.
واعْلَم أنَّ النظري لا يتقيَّد بِكَون كل مِن مُقَدِّمَتَي دليله بالعقل الصِّرف، بل قد تَكون إحداهما سمعية حيث أفاد السمعُ اليقين بأنْ يَكون مِن ضروريات الدِّين (كوجوب الصلاة
¬__________
(¬1) في (ز، ظ): بالنظر فيه.
بن الوليد، والوليد بن مسلم.
ومن التدليس أيضاً: أن يُسقِط أداة الرواية ويذكر الشيخ فيقول: (فلان). وهذا يفعله أهل الحديث كثيراً، ولا يضر.
قال على بن خشرم: كنا عند ابن عُيينة، فقال: الزهري. فقيل له: حدَّثكم الزهري؟ فسكت، ثم قال: الزهري. فقيل له: سمعته من الزهري؟ فقال: لا، لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.
وقد مَثَّل ابن الصلاح بهذا للقسم الأول وهو "تدليس الإسناد"، وسبق ما ذَكره في حُكمه وأنه إذا كان لا يُسمِّي إلَّا ثقة، لا يقدح.
قال أئمة الحديث: يُقبَل تدليس ابن عُيَينة؛ لأجل ذلك. قال ابن عبد البر: لا يكاد يوجد له حديث دلس فيه إلا وقد تَبيَن سماعه عن ثقة. ثم مَثَّل ذلك بمراسيل كبار الصحابة، فإنهم لا يُرسِلون إلَّا عن صحابي.
الثالث: في اقتصاري في النَّظم على شروط الراوي الثلاثة إشعارٌ بأنه لا يُشترط غير ذلك، وقد أشرتُ إلى بعض ما لا يُشترط مما فيه خِلاف، ولم أستوعبه؛ لكثرته.
فمِن ذلك: لا يُشترط أن يكون بصيراً. وفي "الشهادات" مِن الرافعي حكاية وجهين في رواية الأعمَى، والأصح عند الأكثرين الجواز، خلافًا لتصحيح الإمام والغزالي.
قال: (ومحل الخلاف فيما تحمَّله وهو أعمى، لا ما سمع قبل العمى، فإنَّ ذلك مقبول قطعًا؛ للإجماع على قبول روايات ابن عباس وغيره ممن طرأ عليه العمى). انتهى
لكن الشرط فيمن تحمل حالة العمى أنْ يحصل الثقة به بأنْ يكون ضابطًا للصوت، ويدل له إجماع الصحابة على قبول حديث عائشة مِن خلف سِتْر، فإنهم في هذه الحالة كالعميان، وقَبِلوا خبر ابن أم مكتوم وعتبان بن مالك ونحوهما.
الثاني: الاستفهام، نحو: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17]، {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} [طه: 49].
الثالث: تَرِد كل منهما نكرة موصوفة، نحوة "مررت بما معجب لك". أي: بشيء. ومنه ما أنشده سيبويه:
رُبما تَكْره النُّفوسُ منَ الأَمْـ ... رِ لَهُ فرْجَةٌ كحَلِّ العقَالِ
أي: رُب شيء، وجملة "تكره النفوس" صفة له، والعائد محذوف، أي: تكرهه.
ونحو: "مررت بمن معجب لك"، أي: بإنسان ونحوه.
وشرط الكسائي في "مَن" هذه أنها لا تقع إلا في موضع لا يقع فيه إلا [النكرة] (¬1)، نحو: "رُب مَن عالم أكرمت"، و"رب مَن أتاني أحسنت إليه".
ورُدَّ ما بما أنشده سيبويه:
فكفى بنا فضلا على مَن غيرنا ... حب النبي محمد إيانا
مع أن مجرور "على" يكون نكرة ومعرفة.
الرابع: أن يقعا نكرة تامة.
نحو: ما أحسن زيدًا.
ويُعبر عنها بِـ"ما" التعجبية، فَـ"ما" مبتدأ، وما بعدها الخبر، أَي شيء حسن زيدًا، أي: صَيَّرَه حسنًا.
والمسوغ للابتداء بها -مع كونها نكرةً- إفادةُ التعجب، كما في نحو: [عجبٌ] (¬2) لزيد. هذا مذهب سيبويه، وزعم الأخفش أن "ما" التعجبية موصولة، والفعل بعدها صلة لها،
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: التنكير.
(¬2) كذا في (ص، ض، ش). لكن في (ت، ظ): عجبت. وفي (ق): عجيب.
ومن تخصيص آية المواريث حديث: "لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر" (¬1).
ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسُّنة الفعلية قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الآية، خُصِّص برجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا لَمَّا كان محصنًا (¬2).
نعم، قد يقال: إنَّ التخصيص إنما كان بالقرآن الذي نُسخت تلاوته وبقي حُكمه، وهو: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البَتَّة"، إذِ المراد بهما المحصن والمحصنة.
قولي في البيت الثاني: (ذُو مَانِعٍ) هو اسم "يصير" في آخِر البيت قبلها، و"فيها" خبره، والضمير فيه عائد لآية المواريث.
واعْلَم أن السُّنة ضربان: متواترة، وآحاد.

الضرب الأول: سبق في الكلام في الإسناد أنه إما مفقود أو قليل جدًّا. فذِكر التخصيص به إنما هو على تقدير الوجود، أو أن ذلك في زمن كان كثيرًا، وهو الصدر الأول.
قال ابن الحاجب: (إن تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة جائز باتفاق) (¬3).
وتبع في ذلك قول الآمدي: لا أعلم فيه خلافًا.
وكذا حكى الاتفاق الهندي، لكن حكى بعضهم في الفعلية خلافًا.
وعبارة الشيخ أبي حامد الأسفراييني: لا خلاف في ذلك إلا ما يُحكى عن داود في إحدى الروايتين.
وقال ابن كج: (لا شك في الجواز؛ لأن الخبر المتواتر يوجِب العلم كما أن ظاهر الكتاب
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 6383)، صحيح مسلم (رقم: 1614).
(¬2) سبق تخريجه.
(¬3) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 316).
قطعة مِن النار، فليأخذها أو فليتركها" (¬1).
وحديث أبي سعيد في الصحيحين في الذُّهَيْبَة التي بعث بها عَلِي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقسمها بين أربعة نفر، وفيه: "إني لم أؤمر أنْ أُنقِّب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" (¬2). وقول عمر فيما رواه البخاري: "إنَّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا" (¬3).
وغير ذلك، وهو كثير، مما يدل على أن العمل بالظن واجب.
تنبيه: ينشأ مما قررناه في "الاستقراء" أن القياسات المنطقية تدور على ذلك، فإنَّا إذا قُلنا: (العالم متغير، وكُل متغير حادث)، فكَوْن العالم متغيرًا إنما عُلم بالاستقراء التام؛ فلذلك أفاد القطع واليقين.
وإذا قُلنا: (الوضوء وسيلة للعبادة، وكُل ما هو وسيلة للعبادة عبادة)، إنما أثبتنا المقدمة الثانية بالاستقراء، وهو ظني؛ لأنه من أكثر الجزئيات.
وربما يندرج فيه أيضًا ما ذكره ابن الحاجب وغيره في الاستدلال من "قياس التلازم"، وهو تَلازُم بين "ثبوتين" أو "نفيين" أو "ثبوت ونفي" أو "نفي وثبوت"، كما نقول في المسلِم يجد الميتة: (إنْ كان مضطرًا أكل، إنْ لم يكن مضطرًا لم يأكل، إنْ كان مضطرًا لم يَحْرُم، إنْ لم يكن مضطرًا حرم).
ثم المتلازمان إنْ كانا طَرْدَا وعَكْسًا كالجسم والتأليف، يجري فيهما الأولان وهو التلازم بين ثبوتين وبين نفيين طردًا وعكسًا، بمعنى أنَّ وجود كل منهما يَستلزم وجود الآخَر، ونَفْيَه يستلزم نَفْي الآخَر، فكُل ما كان جسمًا كان مؤلَّفًا، وكُل ما كان مؤلَّفًا كان جسمًا، وكُل ما لم
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 6762)، صحيح مسلم (1713).
(¬2) صحيح البخاري (رقم: 4094)، صحيح مسلم (رقم: 1064).
(¬3) صحيح البخاري (رقم: 2498).

الصفحة 148