كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

ونحوه)، وربما كانت القضيتان سمعيتين لكن إنتاجهما المطلوب وإفادتهما العِلْم به - بالعقل الصِّرف، ولا يَضُر كَوْن عِلم النسبة في كلتيهما أو إحداهما بِغَيْر العقل.
وأمَّا الموجِبُ المُرَكَّب - وإليه أَشَرْتُ بقولي: (وَمِنْهُ مَا رُكِّبَ) إلى آخِره - فأقسام:
أحدها: ما تَرَكَّب مِن "عقل" و"حِس هو سَمْعٌ" بواسطة كثرة ذلك السمع وتكَرُّره، وهو "التواتُر"، وسيأتي بيانه في باب "طريق ثبوت الدليل" أَيْ: سَنَد الأخبار، وفي إفادته العِلم وَكَوْنه عِلْمًا ضروريًّا أو نَظَريًّا خِلَافٌ يأتي هناك [أيضًا] (¬1)، وذلك كَعِلْمنا بالقرون الماضية كعاد وثمود و [قَوْم] (¬2) موسى وعيسى والبلاد النائية كالرُّوم والهند، ويُسَمَّى الإدراكُ بذلك "العِلم التواتُري".
الثاني: أنْ يَتَرَكَّب الموجِب مِن "عَقْل" و"حِسّ غَيْر سَمع"، وهو أنواع:
أحدها: بواسطة مشاهداتٍ متكررة تُؤدِّي إلى جَزْم العقل بِتَرْتيب أَمْر على أَمْر، لا على سبيل الاتفاق، كمشاهدة تَرَتُّب الإسهال على السقمونيا؛ فَيَحْكُم بأنَّ السقمونيا مُسْهِلة. وتُسَمَّى هذه القضايا "التجربيَّات".
وثانيها: أنْ يَكون بواسطة قرائن قوية يَجْزِم العقلُ - بسبب توسطها - بالحُكم المترتِّب عليها، كقولنا: (نورُ القمر مستفاد مِن الشمس). فإنه لَمَّا اختلف تشكل النور في القمر بسبب قُرْبه مِن الشمس وبُعْده منها، فكُلما قَرُب مِن الشمس وانحرف مِن مقابلتها ينقص نورُه، وكُلما بَعُد عنها ازداد نورُه؛ فيحصل حَدسٌ قوي بأنَّ نُورَه مستفاد منها. و"الحدْسُ" عبارة عن سرعة انتقال الذِّهن مِن المبادئ إلى المطالب، وليس بِفِكْر؛ إذْ لا بُدَّ في
¬__________
(¬1) ليس في (ش).
(¬2) ليس في (ز). وفي (ش): قومي.
ومنه: لا يُشترط النطق، فيُقبَل الأخرس الذي له إشارة مفهمة، وبناه بعضهم على الخلاف في شهادته، إنْ قُلنا: (تُقْبَل)، قبِلت روايته مِن باب أَوْلى، أو: (لا)، فوجهان: الظاهر القبول؟ لأنَّ باب الرواية أوسع.
ومنه: الذكورة لا تُشترط، فتُقبل رواية المرأة والخنثى، ونَقل صاحب "الحاوي" (¬1) عن أبي حنيفة أنه لا يقبل أخبار النساء في الدِّين إلا أخبار عائشة وأُم سلمة - رضي الله عنه -.
وغلطه الروياني بأنَّ الحنفية لا يَعرفون هذا النقل، ولكان يَلْزَم أنْ لا يُقبل قولهن في الفتوى، قال أبو زيد الدبوسي: رواية النساء مقبولة؛ لأنهن فوق الأعمى.
نعم، ظاهر كلام الروياني الاتفاق على قبولها في الفتوى، وفيه نظر، ففي تعليق ابن أبي هريرة حكاية وجهين فيه، ولا يَبعُد جريانهما في روايتها، وسيأتي في التراجيح خلاف في رُجحان رواية الرجُل عليها.
ومنه: الحرية لا تُشترط، فتُقبل رواية العبد. قال إلْكِيَا: بلا خلاف.
ومنه: لا يُشترط أن يكون فقيهًا عند الأكثرين، سواء خالفت روايته للقياس أو لا، خلافًا لابن أبان، فلذلك يردُّ حديث المصراة، وتابعه أكثر متأخِّري الحنفية كالدبوسي، لكن الكرخي وأتباعه لم يشترطوا ذلك، قال صاحب "التحقيق" منهم: وقد عمل أصحابنا بحديث أبي هريرة: "إذا أكل أو شرب ناسيًا" (¬2) وإنْ كان مخالفًا للقياس حتى قال أبو حنفية: لولا الرواية لقلتُ بالقياس. قال: ولم يُنقَل عن أحد من السلف اشتراط الفقه في الراوي؛ فثبت أنه قولٌ مُحْدَثٌ.
¬__________
(¬1) الحاوي الكبير (16/ 89).
(¬2) صحيح البخاري (1831)، صحيح مسلم (رقم: 1155) بلفظ: (من نَسِيَ وهو صَائِمٌ فَأَكَلَ أو شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ).
والخبر محذوف وجوبًا.
ونحو قول الشاعر: ونِعْمَ مَن هو في سرٍّ وإعلان.
قاله أبو علي الفارسي، فزعم أن الفاعل مستتر، و"مَن" تمييز، والضمير المنفصل هو المخصوص. وقال غيره: "مَن" موصول فاعل.
الخامس: ورودهما موصولتين بمعنى "الذي".
نحو: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، ونحو: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنبياء: 19].
وهُما حينئذٍ مفردان مذكران في اللفظ، وأما المعنى فقد يكونان كذلك، وقد يكون المعنى غير ذلك، ويظهر بِعَوْد الضمير ونحوه كما هو معروف في محله من النحو.
وقولي: (وَ"مَا" فَقَطْ لِلنَّفْيِ) إشارة إلى ما يختص به "ما"، وذلك أنها تكون على وجهين:
اسمية: ولها الأوجُه السابقة.
وحَرْفية: وهي ما تنفرد به عن "من".
والحرفية إما نافية أو زائدة أو موصولة.
فالأول: إما عاملة على لغة الحجاز، كقوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]، أو غير عاملة، نحو: "ما قام زيد"، و"ما يقوم عمرو".
والثاني: إما كافة أو غير كافة.
والكافة إما:
- عن عمل الرفع، نحو: "قلَّما" و"طالما".
- أو النصب والرفع، وهي المتصلة بِـ"إنَّ" وأخواتها حيث كفت، نحو: إنما زيد قائم.
يوجبه) (¬1). انتهى
نعم، ألحق الأستاذ أبو منصور بالمتواترةِ الخبرَ المقطوع بصحته، ومَثَّله بتخصيص آية المواريث بحديث: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم".
ونحوه قول ابن السمعاني: (إنَّ محل الخلاف في الآحاد إذا لم يجمِعوا على العمل به، أما إذا أجمعوا عليه نحو حديث: "لا ميراث لقاتل" (¬2) و"لا وصية لوارث" (¬3) ونهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها (¬4)، فيجوز التخصيص به بلا خلاف؛ لأن هذه الأخبار بمنزلة المتواتر؛ لانعقاد الإجماع على حُكمها وإنْ لم ينعقد على روايتها) (¬5). انتهى
قلتُ: وفي ذلك كله نظر؛ لأنه إن أريد القطع بصحة المتن فهذه مسألة ما في "الصحيحين" مُسندًا: هل هو مقطوع بصحته كما اختاره ابن الصلاح؟ أوْ لا وهو الذي صَوَّبه النووي وقال به الأكثر؛ وقد سبق بيان ذلك في الكلام على المتواتر والآحاد.
وعلى الثاني: فكيف يساوي القرآنَ والمانعُ مِن التخصيص بالسُّنة للقرآن إنما مستنده عدم المساواة؟
وإنْ أريد القطع في الدلالة فلا شيء مقطوع بدلالته مِن النقليات مِن حيث هو.
¬__________
(¬1) هذا النص جاء في (ص) فقط هكذا: وقال ابن كج: لا شك في الجواز؛ لأن الخبر المتواتر يوجِب العلم -أي ثبوته أمَّا دلالته على حُكم فلا- كما أن ظاهر الكتاب يوجبه. انتهى
(¬2) سبق تخريجه بنحوه.
(¬3) سنن أبي داود (رقم: 2870)، سنن الترمذي (رقم: 2120) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1635، صحيح الترمذي: 2120).
(¬4) صحيح البخاري (رقم: 4820)، صحيح مسلم (رقم: 1408).
(¬5) قواطع الأدلة (1/ 185).
يكن مؤلفًا لم يكن جسمًا، وكُل ما لم يكن جسمًا لم يكن مؤلفًا.
وإنْ كانا متلازمين طردًا فقط كالجسم والحدوث، جرى فيهما الأول طَرْدًا، ويجري فيهما التَّلازُم السلبي عَكْسًا.
والمتنافيان فيهما التفصيل، فلا نُطَوِّل بذلك؛ إذِ المراد التنبيه على رجوع غالبها للاستقراء إما التام أو الناقص بحسب المحالّ، والله أعلم.
ص:
896 - وَمنْهُ "الِاسْتِصْحَابُ" في أَصْلِ الْعَدَمْ ... [كَعَدَمِ] (¬1) التَّخْصِيصِ في اللَّفْظِ الْأَعَمْ
897 - وَعَدَمِ الرَّفْعِ لِنَصٍّ قُرِّرَا ... حَتَّى يُرَى الَّذِي لَهُ قَدْ غَيَّرَا
898 - وَرُبَّمَا يَكُونُ مَقْلُوبًا، كَمَا ... مِنْ ثَابِتٍ يَثْبُتُ مَا تَقَدَّمَا
899 - لِكَوْنِ الَاصْلِ ألهُ مَا غُيِّرَا ... فَرَاجِعٌ لِمُسْتَقِيمٍ قُرِّرَا
الشرح:
أي: ومن المختلف في كونه دليلاً مُغايِرًا للأصول الأربعة: "الاستصحاب"، فذهب أصحابنا قاطبة إلى الاحتجاج به.
والمعنى: إذا كان حُكْمٌ موجودًا وهو محتمل أنْ يتغير، فالأصل بقاؤه وَنَفْي ما يُغَيِّرُه. وذلك كاستصحاب مُقْتَضَى العموم أو النَّص إلى أنْ يَرِد المخصِّص أو الناسخ.
وهو معنى قولي: (حَتَّى يُرَى الَّذِي لَهُ قَدْ غَيَّرَا). أي: غَيَّر العام بتخصيصه أو المنصوص بنَسخه.
¬__________
(¬1) كذا في (ن 1، ن 2، ن 5)، وهو الموافق لِـ "النبذة الزكية" ولِشرح المؤلف. وفي سائر النُّسَخ: لعدم.

الصفحة 149