غَيْر دليل، بل مأخوذ بالتسليم، ويُسَمَّى اعتقادًا صحيحًا؛ لِكَوْنه مُطابِقًا للواقع، وبذلك يفارق الاعتقاد الفاسد وهو الجهل المُرَكَّب - كما سبق، والله أعلم.
الدليل
57 - حَدُّ الدَّلِيلِ هُوَ مَا يُمْكِنُنَا ... بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيهِ بَيِّنَا
58 - تَوَصُّلٌ لِمَطْلَبٍ تَصْدِيقِي ... المَنْطِقِيْ: مُعَدَّدُ التَّصْدِيقِ
59 - حَيْثُ يَكُونُ مُنْتِجًا لِلْحُكْمِ ... هُوَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ في الرَّسْمِ
60 - لَكِنَّهُ سَمَّى "قِيَاسًا" ذَا، وَمَا ... يُعْرَفُ بِـ "الْقِيَاسِ" "تَمْثِيلًا" سَمَا
الشرح: لَمَّا انتهى الكلامُ في أول الأربعة (وهو العِلْم)، شَرَعْتُ في الثاني (وهو الدليل)، وهو فَعِيل بمعنى فاعِل، مِن دَلَّ يَدُلُّ دَلَالة - بِفَتْح الدال على الأفصح، وبكسرها، وقِيل بالفتح في الأعيان وبالكسر في المعاني. تقول: دَلَّه على الطريق دَلالة، ودَلَّ الدليلُ على الحُكْم دلالة، ومعنى "الدلالة": الإرشاد إلى الشيء. فالدليل إمَّا المُرْشِد حقيقة وإمَّا ما به الإرشاد. والمُرْشِد إمَّا الناصب لِلَّذِي به الإرشاد مِن العلامات مثلًا، وإمَّا الذاكِر لذلك. ففيما نحن فيه: الناصبُ هو البارئ سبحانه وتعالى، والذاكِرُ هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما به الإرشاد هو كتاب الله تعالى وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما نشأ عنهما مِن الإجماع والقياس وغيرهما عِند مَن يَقُول به - كما سيأتي.
وأمَّا "الدليل" في الاصطلاح فَفِيه رأيان:
أحدهما للفقهاء وأهل الأصول وكذا المتكلمون (إلَّا فيما سيأتي): ما يُمْكِن التوصُّل - بصحيح النَّظَر فيه - إلى مَطْلُوب خَبَرِي. وهو معنى قولي: (تَصْدِيقي).
مثاله: الدليلُ على حَدَث العالَم نَفْسُ العالَم؛ لأنَّ بالنظر في أحواله مِن التغير والتجدد
الصدِّيق وعُمر - رضي الله عنهما -؛ لطلبهما الزيادة في الرواية، ولكن ما رُوي مِن ذلك [كله] (¬1) محمول على الاستظهار والتأكيد، لا أنَّ ذلك شرط.
وردَّ عليه إلْكِيا الطبري بأنه يلزم منه الخروج عن الحصر كما في تضعيف أعداد بيوت الشطرنج، وبأنَّ الفَرق بينه وبين الشهادة [الاتهام] (¬2)؛ لتعلُّق الشهادة بخصوص كما فرق بينهما في أحكام كثيرة.
على أنَّ الجبائي قد نَقل عنه اشتراط أنْ يعضده ظاهر، يَقُوم ذلك العاضد مقام راوٍ آخَر.
ومما ينبغي أنْ يُستفاد أنَّ الحاكم نَقل أنَّ البخاري اشترط في صحيحه رواية عَدْلَين عن عَدْلين.
وخَطَّأه في ذلك ابن الجوزي وغيره، ولو صح لكان احتياطًا من البخاري، لا شرطاً.
وفي "البحر" للروياني و"جامع الأصول" لابن الأثير أنَّ بعضهم اشترط أربعة عن أربعة إلى أن ينتهي.
وقال الأستاذ أبو منصور: منهم مَن اعتبر ثلاثة عن ثلاثة، ومنهم من اعتبر خمسة، ومنهم من اعتبر سبعة، ومنهم من اعتبر عشرين، ومنهم من اعتبر سبعين، وكل هذا غريب، إنما ذكر بعض ذلك في شروط عدد التواتر، لا الآحاد.
ومنهم مَن شرط في الخبر غير هذا مما يَطُول ذِكره، وفيما ذُكِر كفاية في هذا المختصر، والله أعلم.
¬__________
(¬1) في (ز): كأنه.
(¬2) في (ز): الاتهام. وفي (ص، ت، ض): الإبهام. وفي (ق، ظ): الايهام.
فإنْ قلتَ: يشكل هذا بأنك جعلت "ما" كَـ"مَن" في هذه المعاني، فيقتضي أن يكون "مَن" موصولًا حرفيًّا وليس كذلك.
قلتُ: التشبيه يَصْدُق بصورة "من" الموصولية، ولا يَلزم أن يكون بسائر الوجوه، والله أعلم.
ص:
517 - وَ"مِنْ" بِكَسْرٍ لِابْتِدَاءِ الْغَايَهْ ... وَلِبَيَانِ الْجنْسِ في الدِّرَايَهْ
518 - وَهَكَذَا التَّبْعِيضُ وَالتَّعْلِيلُ ... وَبَدَلٌ وَغَايَةٌ [تَحُولُ] (¬1)
519 - وَمثْلُهُ التَّنْصِيصُ لِلْعُمُومِ ... وَالْفَصْلُ وَالْمَجيءُ في التَّفْهِيمِ
520 - كَـ"الْبَا"، كَذاكَ "في" وَ"عِنْدَ" وَ"عَلَى" ... وَ"هَلْ" لِتَصْدِيقٍ [يُرَادُ] (¬2) بِانْجِلَا
الشرح:
الاحتراز بالكسر عن "مَن" المفتوحة التي سبق ذكرها مع "ما".
فـ"مِن" المكسورة (وفيها لغة "منا" بألِف، حكاه في "التسهيل") تَرِد على وجوه:
أحدها: لابتداء الغاية، وهو الأغلب عليها، وتُعْرف بأن يذكر بعدها "إلى"، فيستقيم الكلام، نحو: "سِرتُ من البصرة"، فإنه يَصْدُق أن يقول: "إلى بغداد"، وهو معنى قول بعضهم: وقد يحذف انتهاء الغاية بعدها؛ للعِلم به.
وقد لا يقصد فيه انتهاء الغاية أصلًا، نحو: "أعوذ بالله من الشيطان"، و"زيد أفضل من
¬__________
(¬1) في (ض، ن 1): تجول.
(¬2) في (ظ، ن 5): يزاد.
"لا نَدَع كتاب ربنا ولا سُنة نبينا لقول امرأة" (¬1) إلى آخره -إنَّ ذلك إنما هو في نَسخِه به، لا في التخصيص) (¬2). انتهى
والإشارة بهذا إلى ما رواه مسلم عن الشعبي أنه حدث بحديث فاطمة بنت قيس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة" (¬3)، فأخذ الأسود بن يزيد كفًّا من حصباء، فحصبه به، وقال: ويلك تُحدِّث بمثل هذا؟ قال عمر: "لا نترك كتاب ربنا وسُنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت؟ أم نسيت؟ " (¬4). وزاد الترمذي في روايته: "وكان عمر يجعل لها السكنى والنفقة" (¬5).
ووقع في "مختصر ابن الحاجب" أن عمر قال: ("لا ندري أصدقت؟ أم كذبت؟ ") (¬6). وأنكروه عليه؛ فإن المحفوظ كما سبق: "أحفِظَتْ؟ أم نسيت؟ ".
وليس بمنكر؛ فقد رواه الحارثي في "مسنده" من طريق إلى أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود. لكن قال صاحب "التنقيح": (إن هذا الإسناد مُظلِم إلى أبي حنيفة).
المذهب الثاني: المنع مطلقًا. حكاه أبو الخطاب عن بعض الحنابلة، ونقله الغزالي في
¬__________
= وغيرها. قال الألباني: ضعيف. (إرواء الغليل: 1248).
(¬1) صحيح ابن حبان (رقم: 4250)، سنن البيهقي الكبرى (15508) وغيرهما. وفي سنن الترمذي (رقم: 1180) وغيره بلفظ: (لَا نَدَعُ كِتَابَ الله وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ)، وفي صحيح مسلم (رقم: 1480) وغيره بلفظ: (لَا نَتْرُكُ كِتَابَ الله وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ)
(¬2) قواطع الأدلة (1/ 372).
(¬3) صحيح مسلم (رقم: 1480).
(¬4) صحيح مسلم (رقم: 1480).
(¬5) سنن الترمذي (رقم: 1180). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1180).
(¬6) مختصر المنتهى (2/ 319) مع بيان المختصر.
فلا حجر به؛ لأنَّ الحجر كان ثابتًا، والأصل بقاؤه حتى يصلح دِينه وماله.
وأما في الرشيد فقد ثبت الإطلاق، والأصل بقاؤه حتى يرتفع، فبتضييع المال يرتفع؛ لأنه مقصود الحجر، بخلاف الفسق؛ فإنه لا يتعلق بالمال.
ونحوه: إذا ظهر لبنت تسع سنين لبن فارتضع منها صغير، حرم، ولا يحكم ببلوغها.
قالوا: لأنَّ احتمال البلوغ قائم، والرضاع كالنَّسب، يكفي فيه الاحتمال.
والمذهب وجوب فطرة العبد الغائب المنقطع الخبر، ولا يجوز إعتاقه عن الكفارة.
تنبيهات
الأول: قولي: (في أَصْلِ الْعَدَمْ) شامل للنفي الشرعي والعقلي.
فالشرعي كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دُون خمسة أوسق صدقة" (¬1).
والعقلي: كما سبق في نَفْي وجوب صلاة سادسة وشهر غير رمضان.
وشامل أيضَّاَ الحكم المتكرر بتكرر سببه، فإنَّ الدليل لَمَّا قام على كَوْن تلك أسبابًا لتلك الأحكام، وجب استصحابها ما لم يمنع منه مانع.
ويخرج عن هذا استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف، وهو أنْ يحصل الإجماع على حُكم في حال فيتغير تلك الحال ويقع الخلاف، فلا يُسْتَصحَب حال الإجماع في محل الخلاف.
كقول الشافعية في الخارج مِن غَيْر السبيلين: الإجماع على أنه قَبْله متطهِّر، والأصل البقاء حتى يَثبت [تَعارُض] (¬2)، والأصل عَدَمه. هذا قول أكثر أصحابنا، منهم الغزالي،
¬__________
(¬1) سبق تخريجه.
(¬2) كذا في (ت، س)، لكن في (ض، ص، ش): بعارض.