والتحول - على اختلاف أنواع ذلك - يُتَوصَّل إلى المطلوب وهو الحدوث فيه، وإنما عُبِّر بِـ "ما يُمْكن" دُون "ما يتوصل"؛ للإشارة إلى أنَّ المعتبَر التوصل بالقوة، لا بالفعل؛ لأنَّ الدليل [قد] (¬1) لا يُنْظر فيه، ولا يُخْرِجه ذلك عن أنْ يَكون دليلًا.
وقولي: (بَيِّنَا) نَصْب على الحال مِن "النظر"، وقد خرج بذلك ما لا يمكن التوصل به إلى المطلوب، [أو يمكن] (¬2) لَكِن لا بالنظر، كسلوك طريق يمكن أن يتوصل بها اتفاقًا، أو يمكن لا بصحيح النظر، بل بفاسده، ككاذب المادة في اعتقاد الناظر، أو يمكن التوصل بصحيح النظر لكن لمطلوب تَصَوُّري لا تصديقي، فإنَّ المفِيد لذلك إنما هو المعَرِّفُ كما سيأتي. فَكُل ذلك لا يُسَمَّى دليلًا.
نَعَم، يدخل في التعريف المذكور ما يفيد القَطْع وما يفيد الظن، فَيُعْلَم أنَّ كُلًّا يُسَمَّى دليلًا، وهو طريقة الفقهاء ونحوهم؛ لأنَّ مطلوبهم عَمَلٌ، وهو لا يتوقف على اليقين. ومنهم مَن لا يُسَمِّي مُفِيدَ الظنَّ "دليلًا"، بل "أَمَارَةً"، وهو اصطلاح المتكلمين؛ لأنَّ مطلوبهم يقين، فحينئذ يُزاد فيه: "إلى العِلم بالمطلوب الخَبَرِي".
وخَرَج مِن التعريف بذلك أيضًا الدليل بَعْد تمامه مُرَتَّبًا صحيح المادة والصورة؛ فإنه قد حصل به المطلوب، فلا يُسَمَّى دليلًا؛ إذْ لا يُتَوَصَّل به؛ لأنَّ المطلوب حاصل به مِن قَبْل النظر فيه في الحال، وتحصيلُ الحاصل مُحَال.
ويدخل فيه أيضًا ما فَسد فيه الدليلُ لِفَسَادِ صُورته لكن مادته صحيحة؛ لأنه يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب، بِخِلَاف فاسد المادة، سواء أكانت صورته
¬__________
(¬1) ليس في (ش).
(¬2) في (ز، ظ): أو يمكن التوصل به إلى المطلوب.
تنبيه:
326 - تَحَقُّقُ الشُّرُوطِ فِيهِ مُعْتَبَر ... فَلَيْسَ يُقْبَلُ الَّذِي قَدِ اسْتَتَرْ
327 - في بَاطِنٍ أَؤ ظَاهِرٍ، وَمَنْ جُهِلْ ... بِعَيْيهِ فَذَاكَ أَيْضًا مَا قُبِلْ
الشرح:
لَمَّا ذكرتُ شروط الراوي الثلاثة نَبهتُ بهذا التنبيه على أنه لا بُد من تحقُّق وجود الثلاثة. فما لا يتحقق فيه اجتماعُها، لا يكون حُجة، ويتضح ذلك بمسائل:
إحداها: أنَّ المستور هل يُقبل؟ والمراد به المجهول، وهو على ثلاثة أقسام: مجهول العدالة في الباطن دُون الظاهر، ومجهول العدالة باطنًا وظاهرًا، ومجهول العين.
فالأول: مَن هو عَدْل في الظاهر ولم تُعرف له عدالة في الباطن، وقد فَسَّر الرافعي في "كتاب الصيام" العدالة الباطنة بأنها التي يُرجَع فيها إلى أقوال [المزكِّيين] (¬1)، أي: حيث احتيج إليها، بخلاف مَن لم يحتج فيه لذلك كما سبق، وسبقه إليه الإمام في "النهاية".
والمراد أنه بحيث يحكم الحاكم بشهادته وإنْ لم تقع تزكيته عند الحاكم، وهو مأخوذ من قول الشافعي - رضي الله عنه - في "اختلاف الحديث" في جواب سؤال أورده: فلا يجوز أنْ يُترك الحكم بشهادتهما إذا كانا عدلين في الظاهر.
فعُلِم من ذلك أنَّ المستور مَن يُترك الحكم بشهادته، أي: بكونه لم يُزكِّه مزكيان، فادِّعاء مُغايرة النَّص المذكور لكلام الرافعي غير مستقيم، وكذا ادِّعاء أن المراد بالعدالة الباطنة أن تقع التزكية عند الحاكم ويحكم بالعدالة.
وقال إمام الحرمين في أصوله: (المستور هو الذي لم يظهر منه ما يقتضي العدالة، ولم يتفق
¬__________
(¬1) في (ز، ش، ق): المركين. وفي سائر النُّسخ: المزكين.
عمرو"، ونحوه.
ثم هي لابتداء الغاية في المكان اتفاقًا، نحو: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، وفي الزمان عند الكوفيين، نحو: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79]، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]. وصححه ابن مالك وغيره؛ لكثرة شواهده، وأما تأويل البصريين ففيه تَعسُّف.
قال ابن أبي الربيع: ومحل الخلاف أن "من" هل تقع موقع "مُذْ"؟ فإنها لابتداء الغاية في الزمان بلا خلاف، فالبصريون يمنعونه، والكوفيون يجوزونه. وما ورد في القرآن لا يحتج به على البصريين؛ لأنه لم يرد "مُذ" قبل ولا "مُذْ" بعد.
الثاني: بيان الجنس، وعلامتها أن يصح وضع "الذي" قبلها، نحو: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. أي: الذي هو [مِن] (¬1) الأوثان، فإن الأوثان كلها [رجس] (¬2) وإنْ كان الرجس قد يكون من غير الأوثان. ونحوه قوله تعالى: {خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ} [الكهف: 31].
وحكى الصيمري -من أصحابنا- عن الشافعي فيما لو قال: (له مِن هذا المال ألف)، وكان المال كله ألفًا، أنه إقرار بجميعه، حملًا على أن "مِن" للتبيين.
الثالث: التبعيض، وعلامتها صحة "بعض" محلها، نحو: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253].
نعم، فرق بعضهم -كما قال ابن أبي الربيع- بين "أكلت من الرغيف"، و"أكلت بعض
¬__________
(¬1) ليست في (ظ، ق، ت).
(¬2) كذا في (ت). لكن في سائر النُّسخ: جنس.
"المنخول" عن المعتزلة، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء، ونُقل عن طائفة مِن أهل العراق وأنهم لأجله منعوا الحكم بالقرعة وبالشاهد واليمين.
الثالث: عن عيسى بن أبان: إنْ خُص بقاطع، جاز تخصيصه بعد ذلك بالاَحاد؛ لأنه بعد التخصيص يكون مجازًا في الباقي. أما قَبْله فحقيقة في الأفراد.
وقد استشكل نَقْل هذا عنه مع نَقل عدم حُجية العام بعد التخصيص عنه.
وأجيب بأنَّ قوله: (غير حجة) إنما هو من حيث احتمال أن يُراد الحكم بالباقي وأنْ لا يراد، فصار مُجْمَلًا، فإذا أُخرج مِن الباقي بعد الحكم شيء بخبر الواحد، كان محكومًا عليه بضد حكم العام، خارجًا مِن محل الاحتمال والإجمال.
قال ابن السبكي في "جمع الجوامع": (وعندي عكسه" (¬1).
أي: إنْ خُص بقاطع، لم يجز تخصيصه بالآحاد، وإلا جاز ذلك؛ لأنَّ الغالب في العمومات أنها مخصَّصة، حتى قيل: ما مِن عام إلا وخُصَّ. فإذا كان لا بُدَّ مِن مُخصِّص، فالتخصيص بخبر الواحد يلحق بما هو الأغلب في العمومات، بخلاف العام إذا خُصَّ بقاطع، فقد وافق الأغلب، فلا ضرورة إلى تخصيصه بعد ذلك بخبر الآحاد.
وأقام شارحُه ذلك قولًا وأنه انفرد به، وهو لم يُورده إلا بحثًا واحتمالًا، وإلا فكان يختار في سائر المخصصات -على آراء ضعيفة- أنها يجوز التخصيص بها إذا لم يتقدم تخصيص بما يسوغ التخصيص به؛ إلحاقًا لذلك العام بالأغلب في العمومات.
ولم يَقُل ذلك، فاعْلَمه.
الرابع: إنْ خُصَّ قبل ذلك بمنفصل، جاز أن يُخص بالآحاد، وإلا فلا. قاله الكرخي؛
¬__________
(¬1) جمع الجوامع (2/ 64) مع حاشية العطار.
خلافًا لما نقله عنه ابن الحاجب.
وذهب الأقَلُّون - منهم المزني وأبو ثور والصيرفي وابن سريج وابن خيران - إلى أنه حُجة، وهو مذهب داود، واختاره ابن الحاجب تبعًا للآمدي.
قال أصحابنا: والقول به في موضع الخلاف يؤدي إلى التكافؤ؛ لأنه ما مِن أحد يستصحب حال الإجماع في موضع الخلاف إلا ولخصْمِه أنْ يستصحب حالة الإجماع في مقابِلِه.
مثاله: لو قال في مسألة التيمم: (إذا رأى الماء في أثناء صلاته، لا تبطل؛ لأنَّا أجمعنا على صحة صلاته؛ فلا يبطل الإجماع إلا بدليل). فيقول الآخَر: (أجمعنا على اشتغال ذمته بفرض الصلاة؛ ولا يسقط إلا بدليل).
ووَجْه خروج المسألة مِن قولي: (في أَصْلِ الْعَدَمْ) أن الحالة التي كان المُجْمَع عليه متصفًا بها وقت الإجماع ليست موجودة، فلم يستمر أصل العدم، بل حدث ما أَوْجَب المخالفة.
الثاني:
إطلاق الاحتجاج بالاستصحاب شامل لِمَا عارضه ظاهر أو لا، وهو أصح قَوْلَي الشافعي فيما تَعارَض فيه الأصل والظاهر، كطين الشوارع وثياب مدمني الخمر وأواني الكفار المتدينين بالنجاسة وثياب القصابين وأفواه الصبيان وغير ذلك.
والقول الثاني: يُقدم الظاهر. لكن قال ابن عبد السلام في "القواعد": (إنَّ مدْرَك الخلاف ليس مِن حيث الاستصحاب، بل لمرجِّح مِن خارج ينضم إلى ذلك).
ثُم: الأصح الأخذ بالأصل دائمًا. وقيل: غالبًا.
والأول هو ما أَطلق الرافعي ترجيحه في "باب الاجتهاد" في الأواني، قال: (لأنَّ الأصل