كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

صحيحة أَمْ لَا. وكذلك ما [تُوُصِّل] (¬1) بِفاسد النظر فيه إلى المطلوب ومادته صحيحة؛ فإنَّ الوصول مع الفساد إنما هو اتفاق، ومِثل ذلك لا ينافي التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب.
الثاني: وإليه أَشَرْتُ بِقَولي: (المَنْطِقِي) إلى آخِره، أَيْ: وقال المنطقي. والمراد أنَّ أهل المنطق رأوا تفسير "الدليل" بأنه تصديقان فصاعِدًا، يَكون عن ذلك تصديقٌ آخَرُ هو المطلوب، وذلك معنى قَوْلي: (مُعَدَّدُ التَّصْدِيقِ). أَيْ: عَدَدٌ مِن التصديقات (اثنان فأكثر)، فاللام في "المنطقي" للجنس. نَعَم، هذا إنما هو بناءٌ على جواز القياس المُرَكَّب، وهو ما كان فيه أكثرُ مِن مقدمتين، وعلى ذلك جَرَى ابنُ الحاجب بقوله: (قولان فصاعدًا).
وأمَّا مَن يَرَى بأنَّ ذلك قياسان لا قياسٌ واحد - لا يحتاج أنْ يقول: (فصاعِدًا)، بل يقول: (تصديقان يَكُون عنهما تصديق ثالث).
وقَوْلي: (حيث يَكون مُنْتِجًا لِلحُكْم) إشارة إلى أنَّ التصديقين - أو أكثر - إنما يُسَمَّى دليلًا إذَا كان على وَجْهٍ يُنْتِج الحُكمَ المطلوبَ، بأنْ يَكون على القانون [المُبَيَّن] (¬2) في المنطق المُبَرْهَن على صحته.
والتعبير بقولنا: (يَكُون عنهما قول ثالث) إشارة إلى شمول ما يُنْتِج القَطْعَ والظن، أمَّا مَن يُخَصِّص الدليلَ بما يُنْتِج القطعي فيقول: "يَلْزمُ" مَوْضِع "يَكُون".
نَعَم، أهل المنطق يُسَمُّون ذلك قياسًا، سواء أفاد الظن أو القَطْعَ - كما سيأتي، ويُقسِّمونه إلى اقتراني واستثنائي.
فالاقتراني: ما كان مُقَدِّمتاه خَبَرِيَّتَيْن، نحو: "العالَم مُتَغَيِّر، وكُل مُتَغَيِّر حادِث" فَيُنْتِج
¬__________
(¬1) كذا في (ش). لكن في (ص): يُوصل.
(¬2) في (ش): المعين.
البحث عن باطنه في العدالة) (¬1).
وفي كلام غيره من الأصوليين -كالقاضي في "التقريب"- أنَّ العدالة الباطنة هي الاستقامة بلزوم أداء أوامر الله -سبحانه وتعالى- واجتناب مناهيه وما يثْلم مروءته، سواء ثبت عند الحاكم أوْ لا.
وبالجملة فهذا القسم لا يُقبل عند الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، وعبارة الشافعي في "اختلاف الحديث": لا يُحْتَج بالمجهول. وكذا قال البيهقي في "المدخل": (إنَّ الشافعي لا يحتج برواية المجهولين) (¬2).
وجرى على منع القبول الماوردي والروياني وغيرهما من أصحابنا، وجزم به أبو الحسين ابن القطان ونقله إلْكِيا عن الأكثرين.
ونقله شمس الأئمة عن محمد بن الحسن، وقال: (نصَّ في كتاب "الاستحسان" على أن خبر المستور كخبر الفاسق) (¬3).
وذهب أبو حنيفة إلى قبوله؛ اكتفاءً بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرًا، ووافقه من أصحابنا ابن فورك كما نقله المازري في "شرح البرهان" وسليم في كتاب "التقريب" له.
وعزاه قوم للشافعي، تَوَهَّموه مِن نَصِّه على انعقاد النكاح بالمستورين، وهو غلط؛ فالفَرق بينهما أن المقصود حضور شاهدين ولو كانا يُعدلان عند الاحتياج إليهما، وأما غير النكاح فيقضى بذلك، وفرق بين القضاء بالمستور والانعقاد به؛ ولهذا عند التجاحد في النكاح لا
¬__________
(¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 396).
(¬2) قال الإمام البيهقي في (المدخل إلى السنن الكبرى، ص 93).
(وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ألهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِ الْمَجْهُولِينَ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْ أَحْوَالِهمْ مَا يُوجِبُ قَبُولَ أَخْبَارِهِمْ).
(¬3) أصول السرخسي (1/ 370).
الرغيف" بأن مع "من" كان يحتمل تَوجُّه الأكل للكل وللبعض، [فبَيّنت] (¬1) "من" أن المراد أكل البعض، وأما لو صرح بِـ "بعض" فإن الأكل متوجه ابتداءً للبعض. هذا معنى ما نقله، ولكنه قليل الجدوى.
نعم، البعض يَصْدُق على النصف أو ما دونه، قولان لأهل اللغة، فقياس ذلك أن يجري في البعض المستفاد من "مِن" القولان.
ويشهد للثاني قوله تعالى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، وفي "النهاية" في "كتاب الوكالة": لو قال: "بعْ مِن عبيدي مَن شئت"، فليس للوكيل أن يبيع جميعهم، بل له أن يبيعهم إلا واحدًا باتفاق الأصحاب. وإنْ كان التبعيض في النظم المعروف إنما يورد على النصف فما دونه.
قال: وهذا يناظر الاستثناء، فإن الغالب استثناء الأقل واستبقاء الأكثر، ولكن لو قال: "له عَلَيَّ عشرة إلا تسعة"، صَحَّ، وجُعِل مُقرًّا بدرهم.
الرابع: التعليل، نحو: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة: 19].
الخامس: البدل، نحو: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]، أي: بدل الآخرة.
السادس: الغاية، كذا عبر به كثير، وهو محتمل لأمرين:
أحدهما: الغاية كلها. كذا حكاه ابن أبي الربيع عن قوم، نحو: "أخذت من الياقوت"، فالياقوت مبدأ الأخذ ومنتهاه.
قال: وهذا إذا تحقق, رجع لابتداء الغاية؛ لأنه لَمَّا لم يكن للفعل [امتداد] (¬2)، وجب أن
¬__________
(¬1) في (ش): فيثبت.
(¬2) في (ق، ظ، ت): ابتداء.
لأنه بالتخصيص بالمنفصل يصير مجَازًا عنده كما سبق.
وبالجملة فهذا المذهب ومذهب ابن أبان السابق مَبنيان على القول بأنَّ دلالة العام على كل فرد من أفراده قطعية، وسبق بيان ضَعف ذلك.
الخامس: أن التخصيص بذلك يجوز أنْ يقع ولكن ما وقع. حكاه القاضي في "التقريب"، وحكى قولًا آخَر: إنَّ الدليل قام على المنع من التخصيص بالآحاد. وهذا في الحقيقة هو القول الثاني، وهو المنع مطلقًا.
السادس: الوقف، إما على معنى "لا ندري" وإما على معنى تَعارُض أمرين: دلالة العموم على إثباته، والخصوص على نفيه. وذلك لأنَّ متن الكتاب قطعي وفحواه مظنون، وخبر الواحد بالعكس؛ فتعارضَا، ولا مُرجِّح؛ فالوقف. والله تعالى أعلم.
ص:
652 - وَ [قَلَّ] (¬1) عَكْسٌ، نَحْوُ: "مَا أُبِينَا ... مَيْتٌ" بِـ "أَصْوَافٍ" وَمَا تَلَوْنَا
الشرح:
القسم الثالث من التخصيص بالسمعي: تخصيص عموم السنة بخصوص القرآن، وهو قليل، حتى إنَّ كثيرًا -كالبيضاوي- لم يذكروه أصلًا، وابن الحاجب وإنْ ذكره لكنه لم يُمثِّل له.
وقد ذكرته، وأشرتُ إلى تمثيله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أُبِين مِن حي فهو ميت" (¬2). رواه ابن
¬__________
(¬1) في (ص): قيل.
(¬2) سنن ابن ماجه (رقم: 3217) بلفظ: (فما قُطِعَ من حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ). قال الألباني: ضعيف جدًّا. (ضعيف ابن ماجه: 3277). =
أَصْدَق وأَضْبَط مِن الغالب الذي يختلف باختلاف الأزمان والأحوال، والنقل يعضده؛ فقد حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمامة في الصلاة وكانت بحيث لا تحترز عن النجاسة) (¬1). انتهى
وبالجملة فالتحقيق في مسألة تَعارُض الأصل والظاهر الأخذ بأقوى الظنين:
فيترجح الأصل:
- جَزْمًا إنْ عارضه احتمال مُجَرَّد، كاحتمال الحدث لمن تَيَقَّن الطهر بمجرد مضِي الزمان.
- وعلى الأصح إنِ استند الاحتمال إلى سبب ضعيف عام، كثياب مُدمني الخمر وطين الشوراع.
ويترجح الظاهر جزمًا إنِ استند إلى سبب منصوب شرعًا، كالشهادة، فإنها تُعارض كَوْن الأصل براءة الذمة.
أما إذا كان السبب قويًّا خاصًّا كحيوان يبول في ماء كثير ثم يوجد متغيرًا والحال أنه رأي ظبية تبول فيه وكان بعيدًا عن الماء فلمَّا انتهى إليه وَجَده متغيرًا وشكَّ أنه تَغير بالبول أو بِغَيره، فإن الشافعي نَصَّ على أنه نجس، وتابعه الأصحاب؛ إعمالًا للسبب الظاهر.
ومثله لو جرح صيدًا وغاب عنه فوجده ميتًا، حَلَّ أكله على المشهور.
وكذا لو جرح رجُلاً ومات، فإنه يضمنه وإنْ جاز أنْ يموت بسببٍ آخَر سواه؛ لأنه قد وُجِد سبب يمكن الإحالة عليه. لكن يشْكل على ذلك ما لو جرح المحرم صيدًا فغاب ثم وجده ميتًا ولم يَدْرِ أماتَ بجراحته؟ أم بحادث؟ فهل يَلزمه جزاء كامل؟ أَم أرش الجرح فقط؟
¬__________
(¬1) العزيز شرح الوجيز (1/ 75).

الصفحة 153