"العالَم حادث"؛ لأنَّ المحكوم عليه في المقدِّمة الأُولَى (وهو المُسَمَّى بـ "الموضوع") قد اندَرَج في المحكوم به فيها (وهو المُسَمَّى بِـ "المحمول"). وهذا المحمولُ مندرجٌ تحت محمول الثانية؛ لأنه موضوع له؛ فَلَزِمَ اندراج موضوع الأُولى تحت محمول الثانية، وسَقَط الوسطُ المتكَرِّرُ، ويُسَمَّى موضوع الأُولى "الحد الأصغر" ومحمول الثانية "الحد الأكبر" والوسط المتكَرِّر "الحد الأوسط"، و [تُسَمَّى] (¬1) ذات الأصغر "الصُّغْرَى" وذات الأكبر "الكُبْرَى". وهذا هو الشكل الأول عندهم الذي هو ضروري الإنتاج بِشَرْطه.
فأمَّا إذَا كان الحدُّ المتكرِّرُ "موضوعًا في الصغرى، محمولًا في الكُبرى" عكس ما سبق، فهو الشكل الرابع (نحو: "كُل أب" (¬2) و"كُل ج أ") (¬3)، أو كان محمولًا في المقدمتين فهو الشكل الثاني (نحو: "كُل ب أ" و"كُل ج أ")، أو كان موضوعًا في المقدمتين فهو الشكل الثالث (نحو: "كُل ب أ" و"كُل ب ج").
ولا ينتج شيء مِن هذه الثلاثة إلَّا بَعْدَ الردِّ [للأول] (¬4) غالبًا على الوجْه المُبَيَّن في الفن.
وأمَّا الاستثنائي فهو ما كان بشرط أو تقسيم.
فالأولُ (ويُسمَّى المتصل) نحو: إنْ كان هذا إنسانًا، فهو حيوان. ويُسَمَّى الشرطُ "مُقَدمًا" والجزاءُ "تاليًا"، ثُم يُستثنى بِـ "لَكِن"، فيقال: "لكنه ليس بحيوان؛ فليس إنسانًا"، أو: "لكنه إنسان؛ فهو حيوان"؛ فيحصل الإنتاجُ باستثناء نقيض التالي؛ فينتج نقيض المقدم، وباستثناء عَيْن المقدم؛ فينتج عَيْن التالي كما مَثَّلناه؛ لأنه يَلْزَم مِن ثبوتِ المَلْزُوم ثبوتُ
¬__________
(¬1) كذا في (ص). لكن في (ز، ت): يسمى.
(¬2) هذه المقدمة الأُولى، موضوعها "أ" ومحمولها "ب".
(¬3) هذه المقدمة الثانية، موضوعها "ج" ومحمولها "أ".
(¬4) في (ز، ظ): للأول الملزوم.
يُقضى إلَّا بِعَدْلَين.
وقال ابن الصلاح: (إنَّ الاحتجاج به قول بعض الشافعية، وبه قطع سليم، قال: لأنَّ أَمْر الإخبار مبني على حُسن الظن بالراوي، ولأنَّ رواية الأخبار تكون عند مَن يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن؛ فاقتُصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر. وتُفارق الشهادة؛ فإنها تكون عند الحكام ولا يتعذر ذلك عليهم؛ فاعتُبر فيها العدالة ظاهرًا وباطنًا) (¬1).
قال الشيخ: (ويُشبه أن يكون العمل على هذا في كثير من كُتب الحديث في جماعة من الرواة تَقَادَم العهد بهم وتعذَّرت خِبْرتهم باطنًا).
وصححه المحب الطبري أيضًا.
وقال النووي في "شرح مسلم" في المقدمة: (احتج به كثيرون من المحققين).
وحكى الرافعي في "الصوم" فيه وجهين من غير ترجيح.
وقال في "شرح المهذب": الأصح القبول.
وفي المسألة مذهب ثالث قاله أبو زيد الدبوسي في "التقويم" (¬2): إنَّ المجهول إن نقل عنه السلف وسكتوا عن رَده، عُمِلَ به ما لم يخالف القياس.
تنبيهات
أحدها: ذكر صاحب "البديع" وغيره من الحنفية أنَّ أبا حنيفة إنما قَبِلَ ذلك في صدْر الإسلام حيث الغالب على الناس العدالة، فأمَّا اليوم فلا بُد من التزكية؛ لِغَلبة الفِسق.
¬__________
(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 112).
(¬2) تقويم الأدلة (ص 182).
يكون المبدأ والمنتهى واحدًا.
ثانيهما وهو الظاهر: أنه على حذف مضاف، أي: انتهاء الغاية، فيكون بمنزلة "إلى"، وربما وقع في بعض نُسخ "التسهيل": وبمعنى "إلى"، ومثلوه بقول الشاعر:
عَسَى سائل ذو حاجة إنْ مَنَعْتَه ... مِن اليوم [سؤلًا] (¬1) أْن يُيَسَّر في غَد
وفي "التسهيل" -قبل ذلك- أنها تكون للانتهاء.
ومثلوه بقريب من ذلك، فتكون لابتداء الغاية من الفاعل، ولانتهاء غاية الفعل من المفعول، مثل: "رأيت الهلال من داري من خلل السحاب". فابتداء الغاية وقع من الدار، وانتهاؤه من خلل السحاب.
قال ابن مالك: (وسيبويه أشار إلى هذا) (¬2). وإنْ أنكره جماعة وقالوا: لم تخرج عن ابتداء الغاية، لكن الأُولى ابتداؤها في حق الفاعل، والثانية في حق المفعول؛ لأن الرؤية إنما وقعت بالهلال وهي في خلل السحاب. ومنهم مَن جعلها في الثانية لابتداء الغاية أيضًا، إلا أنه جعل العامل فيها فِعلًا، كأنه قال: "رأيت الهلال مِن داري ظاهرًا مِن خلل السحاب"، فجعل "مِن" لابتداء غاية الظهور؛ لأن ظهور الهلال بدأ من خلل السحاب.
ورُدَّ بأن الخبر المحذوف الذي يقوم المجرور مقامه إنما يكون بما يناسب معناه الحرف، و"مِن" الابتدائية لا يفهم منها معنى الكون ولا الظهور، فلا ينبغي أن يحذف. ومنهم من جعلها بدلًا من الأولى.
السابع: تنصيص العموم، وهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي، نحو: (ما جاءني مِن رجل). فإنه كان قبل دخولها محتملًا لنفي الجنس ولنفي الوحدة؛ ولهذا يصح أن تقول:
¬__________
(¬1) كذا في (ص). لكن في (ت، ظ، ق): يسرا. وفي (ض، ش): سوا.
(¬2) شرح التسهيل (3/ 136).
ماجه، خُصَّ بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80].
وهذا معنى قولي: (بِـ "أَصْوَافٍ" وَمَا تَلَوْنَا). أي: خُصَّ بأصواف وما نتلوه بَعْده مِن الأوبار والأشعار.
ومن أمثلته أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن عبادة بن الصامت: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونَفْي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" (¬1)، فإنَ ذلك يشمل الحر والعبد، مُخَصَّص بقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].
ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رجع إلى المدينة بعد الحديبية، جاءه نساء المؤمنات، منهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أهلها يسألونها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكم ما شرطوه عليه في صلح الحديبية: "أنَّ مَن أتى مِن أصحابك لم نَرُده عليك، ومَن أتاك مِن أصحابنا رددته علينا". فنهاه الله- عز وجل- عن ذلك بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية (¬2)، فخصص النساء مِن شرط النبي - صلى الله عليه وسلم - العام.
هذا على أحد الأقوال.
وقيل: بل نُسخ الشرط.
¬__________
= وفي سنن ابن ماجه (3216) بلفظ: (مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، فَمَا قُطِعَ مِنْهَا فَهُوَ مَيْتَةٌ). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 3276).
(¬1) صحيح مسلم (رقم: 1690).
(¬2) صحيح البخاري (رقم: 2564).
قولان، أظهرهما في "زوائد الروضة" الثاني، ونَصَّ عليه الشافعي في "الأُم".
نعم، هذا على ما في شرح القفال على "التلخيص" وهو التفصيل بين أن يكون رأَى الماء قَبْل بول الظبية عن قُرب غَيْر متغيِّر، فإنْ لم يعهده أصلًا أو طال عَهْده به فهو طاهر؛ عملًا بالأصل.
وذكر الجرجاني - المعروف بالختن (¬1) - مثله في "شرح التلخيص"، وقال: لأنَّ إحالته على السبب الظاهر قد ضعف بطول الزمان.
الثالث:
لا يُطالَب النافي للشيء بدليل إذا دَلَّ على ذلك النفي أمرٌ ضروري. أمَّا إذا لم يكن ضروريًا فالأكثر على أنه يُطالَب بدليل مطلقًا.
وقيل: لا مطلقًا. ويعزى للظاهرية. لكن في "إحكام" ابن حزم أنه يجب عليه الدليل؛ لقوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111]، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169].
وثالثها: يجب في العقليات دُون الشرعيات.
واستشكل الهندي جريان الأقوال على الإطلاق.
وقولي: (وَرُبَّمَا يَكُونُ مَقْلُوبًا) إلى آخِره - أي: ما سبق هو في الاستصحاب المستقيم، وقد يكون الاستصحاب مقلوبًا، وهو انعطاف ما هو في الحال إلى ما قَبْله؛ لِكَون الأصل
¬__________
(¬1) قال الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء، 16/ 563): (شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ الإِسْتِرَابَاذِيُّ ثُمَّ الجرجَانِيُّ الشَّافِعِىُّ، المَعْرُوفُ بِالختنِ، كَانَ ختنَ الإِمَامِ أَبِيَ بَكْرٍ الإِسمَاعِيليِّ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشرَةَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، كَانَ رَأْسًا فِي المَذْهَبِ، صَاحِبَ وَجهٍ).