كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

اللازم، ومن انتفاء اللازِم انتفاءُ [الملزُوم] (¬1).
أمَّا استثناء عَيْن التالي أو نقيض المقدم فلا ينتجان؛ لِجَوَاز أنْ يَكون اللازِم أَعَم مِن الملزوم. أمَّا إذَا استوى المقدم والتالي في التلازم، فينتج الأربعة، نحو: "لو كان بَشَرًا لَكَان إنسانًا".
والثاني (ويُسَمَّى المنفصل) نحو: "العَدَد إمَّا زَوْجٌ أو فَرْد، لكنه زَوْج؛ فليس بِفَرْد"، أو: "فَرْد؛ فليس بِزَوْج"، أو: "لكنه ليس بِزَوْج؛ فهو فَرْد"، أو: "ليس بِفَرْدٍ؛ فهو زَوْج". وهذا مُبَيَّن في مَوْضعه بشروطه، وإنما ذَكَرْته أنموذجًا؛ لِتفسير قولي: (حَيْثُ يَكُونُ مُنْتِجًا لِلْحُكْمِ). ومَن أراد بَسْطَه، يَطْلُبه مِن موضعه.
تنبيه:
الحاصل مِن الفَرْق بين تعريف "الدليل" على الرأي الأول وتعريفه على الثاني أنَّ "الدليل" عند المناطقة هو المادة والصورة، وعند غَيْرهم المادة فقط، فإذا أُرِيدَ الدليل على إثبات الصانع بِحدُوث مَصْنُوعه (وهو العالَم)، كان مجموع قَوْلنا: (العالَم حادث، وكُل حادث له صانع) هو الدليل على أنَّ العالَمَ له صانعٌ عند المناطقة، والدليل عند غيرهم "العالَمُ" فقط؛ لأنَّ النظر فيه يُتَوَصَّل به إلى المطلوب، أمَّا بَعْد أنْ يَترتَّب ويَحْصُل المطلوب فكيف يَكون دليلًا؟ !
ورُجح رأي المناطقة بأنَّ النظر إلى دلالة الشيء بالفعل أقوى مِن النظر إليه باعتبار دلالته بالقوة.
واعْلَم أني إنما قلتُ: (مُعَدَّدُ التصديق) ولَمْ أَقُلْ: (مُقَدِّمتان فَصَاعِدًا)؛ لأنَّ التصديق لا
¬__________
(¬1) في (ز، ظ): الملزوم غالبا.
ومن هذا ما استقرئ في كتاب "الثقات" لابن حبان أن يُوَثق مَن كان في الطبقة المتقدمة من التابعين.
الثاني: قال إمام الحرمين: (إنَّ رواية المستور موقوفة إلى استبانة حاله، فلو كُنا على اعتقاد في حِل شيءٍ فروى لنا مستور تحريمه فالذي أراه وجوب الانكفاف عمَّا كنا نستحله إلي تمام البحث عن حال الراوي).
قال: (وليس ذلك حُكمًا بالحظر المترتب على الرواية، وإنما هو توقُّف في الأمر، والتوقف في الإباحة يتضمن الإحجام، وهو في معنى الحظر، فهو إذًا حظر مأخوذ من قاعدة في الشريعة ممهدة، وهي: التوقف عند عدم بدُوِّ ظواهر الأمور إلى استبانتها، فإذا ثبتت العدالة فالحكم بالرواية إذْ ذاك) (¬1). انتهى
ولا ينافي ما سبق مِن رَد المستور، فإنَّ المراد أنَّا لا نعمل به في الحال، ولكن لا نتركه أصلًا، بل نبحث عنه.
نعم، قوله: (لو كنا على اعتقاد في حِل شيء) إلى آخِره -زَعَم [ابن الأنباري] (¬2) أنه إجماع.
ورُدَّ: بأنَّ الإجماع لا يُعْرف، وبأنَّ المتجه أنه إنْ روى تحريمًا مخالِفًا للبراءة الأصلية فله اتجاه.
أما إذا كان الحِل مستندًا لدليل شرعي فلا وَجْه للإحجام؛ لأنَّ اليقين لا يُرْفع بالشك؛ ولهذا صححوا فيمن قال: (إنْ كنتِ حاملًا، فأنتِ طالق) أنه لا يحرُم وطؤها حتى يظهر الحمل.
¬__________
(¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 397).
(¬2) كذا في جميع النُّسخ، والصواب أنه: الأبياري. وكلام الأبياري في كتابه (التحقيق والبيان في شرح البرهان، ص 681).
(بل رجلان)، ويمتنع ذلك بعد دخول "مِن".
أما الواقعة بعد "ما" فلا تستعمل إلا في النفي والتأكيد لا غير، نحو: (ما جاءني من أحد). وزعم الكوفيون أنها تزاد في الإثبات نحو: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31]؛ بدليل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].
وأُجيب بأن "مِن" للتبعيض؛ لأن مِن الذنوب حقوق العباد، والله عَزَّ وَجَلَّ لا يغفرها، بل يستوهبها إذا شاء. وقوله: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إنما هو في هذه الأُمة، وقوله في الآية الأخرى: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} هو في قوم نوح، فلم يتواردا على محل. ولو سُلِّم أنها أيضًا في هذه الأُمة فلا يبعد أن يغفر بعض الذنوب لقوم وجميعها لآخَرين.
الثامن: الفصل، نحو: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، وتُعْرف بدخولها على ثاني المتضادين.
التاسع: مجيئها بمعنى "الباء"، وهو معنى قولي: (وَالْمَجِيءُ في التَّفْهِيمِ كـ "الْبَا")، أي: مجيء "مِن" لإفهام هذه المعاني كما تُفهمها الحروف المذكورة.
مثالها بمعنى "الباء" قوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. قال يونس: أي: بِطرف. ويحتمل أنه من ابتداء الغاية.
العاشر: بمعنى "في"، كقوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40]، أي: في الأرض. كذا مُثِّلت، والظاهر أنها على بابها؛ لصحة المعنى بذلك.
والأحسن أن يمثل بما حكاه ابن الصباغ في "الشامل" عن الشافعي - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] أنها بمعنى "في"؛ بدليل قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92].
الحادى عشر: بمعنى "عند"، كقوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ
وقيل: لم يقع الشرط إلا على الرجال خاصة، وأراد المشركون تعميمه؛ فنزلت الآية.
ومنها حديث: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أَحْدَث حتى يتوضأ" (¬1)، خُصَّ منه المتيمم بآية التيمم. وقد يمنع هذا مَن يرى أن التيمم يرفع الحدث.
ومنها حديث: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" (¬2)، خُصَّ بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29].
ومنها حديث: "إن الله تَجاوز لأُمتي ما حدَّثت به أنفُسها" (¬3)، خُصَّ بقوله تعالى في سبق اللسان باليمين: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225].

تنبيهان
أحدهما: أشار ابن الحاجب إلى خلاف في المسألة، وأن المخالِف استدل بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وقد سبق الجواب في مِثله بأن ذلك لا يقتضي أن يخرج عن كونه [تبيينًا] (¬4)، فإنَّ تبيينه تارة بالقرآن وتارة بالسُّنة.
الثاني: إطلاق التخصيص بالسُّنة شامل للآحاد وللمتواتر إنْ أثبتناه في السُّنة.
فأما الآحاد فهو ما سبق من الأمثلة.
وأما المتواتر فهو قول الجمهور، وعن بعض فقهاء أصحابنا المنع، وعن أحمد روايتان،
¬__________
(¬1) سبق تخريجه.
(¬2) سبق تخريجه.
(¬3) سبق تخريجه.
(¬4) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): مبينا.
عدم مخالفة السابق لِمَا هو في الحال.
فالاستصحاب المستقيم: ثبوت أمر في الثاني؛ لثبوته في الأول.
والمقلوب هو: ثبوته في الأول؛ لثبوته في الثاني.
مثاله: لو قيل: هذا الكيل هل هو الذي كان يُكال به على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أو لا؟
فيقال: نعم؛ إذِ الأصل موافقة الماضي للحال.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (لم يَقُل الأصحاب به إلا في مسألة واحدة، فيمن اشترى شيئًا فباعه أو وهبه لآخَر ثم قامت البيِّنة لغيرهما بالملك، فنزع مِن المشتري الثاني أو المتهب، كان للمشتري الأول أنْ يرجع بما أعطى من الثمن على بائعه؛ عملًا باستصحاب الملك الذي ثبت الآن لِمَا قَبْل ذلك؛ فإن البيِّنة لا توجد الملك، ولكن تظهره، فيجب أن يكون الملك سابقًا على إقامتها، ويقدر له لحظة لطيفة. ومن المحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي، ولكنهم استصحبوا مقلوبًا وهو عدم الانتقال منه) (¬1).
واعتُرض على الشيخ بأنهم قالوا به في صوَر كثيرة غير هذه، منها: لو قذفه فزنَا المقذوف، سقط الحد عن القاذف.
وقولي: (فَرَاجعٌ لِمُسْتَقِيمٍ) إشارة إلى أنَّ المقلوب يَعُود في المعنى للمستقيم؛ لأنَّ الاستصحاب المقلوب يقال فيه: لو لم يكن الحكم الثابت الآن ثابتًا مِن قَبْل لكان غير ثابت؛ إذ لا واسطة. وإنْ كان غير ثابت، قضي بالاستصحاب بأنه الآن غير ثابت، لكنه ثابت؛ فدَلَّ أنه كان ثابتًا أيضًا.
وحاصله أن الأصل أنه لم يتغير مِن حالِه مِن قَبْل إلى حالِه الآن، فهو مِن قَبْل كما هو
¬__________
(¬1) الإبهاج (3/ 170).

الصفحة 155