كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

يُسَمَّى مُقَدِّمَة حتى يَكون جُزْءًا مِن الدليل، فلو عَبَّرْتُ بذلك، لَزِمَ الدَّوْرُ.
وأمَّا تعبيرُ ابن الحاجب بقوله: (قولان) فَفِيه استعمال القول مقصورًا على القضية - مع كَوْن القول (في الأصل) لِلْأَعَم.
وقولي: (وَمَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ تَمْثِيلًا) معناه أنَّ المنطِقي لَمَّا سَمَّى هذا "قياسًا"، سَمَّى ما هو معروف بِـ "القياس" - في أُصول الفقه وغَيْره - "تمثيلًا"؛ لأنه حُكْم [بِمَا] (¬1) لِأحَد المِثْلَين في تلك [الْعِلَّة] (¬2) على المِثْل الآخَر؛ تحقيقًا للمماثلة الحاصلة بينهما.
وقولي: (سَمَا) أَيْ: عَلَا وارتفع هذا التمثيل؛ لأنه أحَدُ الأدلة المتفق عليها بين الأئمة كما سيأتي؛ فَشَرُفَ بذلك.
ومَوْضعُ جملة "سَمَا" حينئذ نَصْبٌ على [الحالية] (¬3) مِن المفعول (وهو "مَا" الموصولة) أو على الصفة لِـ "تمثيلًا"، والله أعلم.
ص:
61 - فَإنْ يَكُنْ جَمِيعُهُ قَطْعًا، فَلَا ... يُنْتِجُ إلَّا القَطْعَ مَهْمَا حَصلَا
62 - وَذَا هُوَ الْبُرْهَانُ، أمَّا مَا قُضِي ... فِيهِ بِظَنٍّ فَلِظَنٍّ [يَقْتَضِي] (¬4)
63 - وَمِنْهُمُ مَنْ قَالَ: ذَا "أَمَارَهْ" ... وَخَصَّ بِالقَطْعِ الدَّلِيلَ اخْتَارَهْ
الشرح: أَيْ: إذَا كانت مُقَدِّمَتَا الدليل أو مقدماته كُلها قَطْعِية، فلا ينتجُ إلَّا قَطعِيًّا،
¬__________
(¬1) كذا في (ز، ت). لكن في (ض، ص): لما.
(¬2) كذا في (ز، ض، ق، ص، ت). لكن في (ش): للعلة.
(¬3) في (ت): الحال.
(¬4) في (ز، ص): مقتضى.
الثالث: قيل: مثال رواية المستور ما رُوي عن أبي سهل عن مُسة -بضم الميم وتشديد السين المهملة- الأزدية، عن أُم سلمة: "كانت النُّفساء تقعد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين يوماً، وكُنا نطلي على وجوهنا الورس. [تعني] (¬1) من الكلف" (¬2).
قال القاضي أبو الطيب: أبو سهل ومُسَّه مجهولان.
لكن الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: لا نعرفه إلَّا من حديث أبي سهل عن مُسة الأزدية. قال: (وقال محمد بن إسماعيل: أبو سهل ثقة).
واسمه كثير بن زياد، وهو ثقة.
وقال الخطابب: حديث مُسة أثنى عليه محمد بن إسماعيل. ثم ذكر ما سبق.
قيل: ومن أمثلته حديث عبد الرحمن بن وَعْلة المصري عن ابن عباس أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما إهاب دُبغ فَقَدْ طَهُر" (¬3). فقد قال أحمد: ومَن هو ابن وَعْلة؟
إلا أنَّ غير أحمد عرفه ووثَّقه، فقد روى عنه زيد بن أسلم ويحيى بن سعيد وغيرهما، ووثَّقه ابن مَعين والعجلي والنسائي، وروى له مسلم والأربعة.
الرابع: ما جرينا عليه -مِن كَون العدالة شرطًا فلا بُد مِن تحقُّقها- أَجْوَد مِن قول ابن الحاجب والبيضاوي وغيرهما: إنَّ الفِسق مانع، وإنه لا بُد مِن تحقُّقه. فجمعوا بين متنافيين؛ لأنَ جَعْله مانعًا يقتضي الاكتفاء بأنَّ الأصل عدمه، لا تَحقُّق عدمه؛ لأنَّ هذا شأن الموانع،
¬__________
(¬1) ليس في (ز).
(¬2) سنن أبي داود (رقم: 311)، سنن الترمذي (139)، سنن ابن ماجه (648) وغيرها. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 311).
(¬3) سنن الترمذي (رقم: 1728)، وقال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1728).
ورواية صحيح مسلم (رقم: 366) بلفظ: (إذا دُبغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ).
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10]. قاله أبو [عبيدة] (¬1).
الثاني عشر: بمعنى "على"، كقوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77]. وقيل: بل هو على التضمين، أي: منعناه. وهو أَوْلى من التجوُّز في الحروف كما سبق تقريره والخلاف فيه، والله أعلم.
وقولي: (وَ"هَلْ" لِتَصْدِيقٍ يُرَادُ بِانْجِلَا) تمامه قولي:
ص:
521 - في مُوجَبٍ لَا غَيْرِهِ، وَالْوَاوُ ... لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ إذَا يُسَاوُوْا
الشرح:
فقد اشتمل مع هذا البيت على بيان معنى حرفين: "هل"، و"الواو".
فأمل "هل" فموضوع لطلب التصديق الإيجابي دون التصور ودون التصديق السلبي. تقول: "هل جاء زيد؟ " و"هل عمرو منطلق؟ " ولا يجوز "هل زيد قائم؟ أَم عمرو؟ " إذا أُريد بِـ"أَم" المتصلة، ولا "هل لم يَقُم زيد؟ ".
ونظيرها في الاختصاص بطلب التصديق "أَم" المنقطعة، و [عكسهما] (¬2) "أم" المتصلة.
قيل: ومن معاني "هل" النفي؛ بدليل دخول "إلا" على الخبر بعدها، نحو: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، و"الباء" في قوله: (ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم).
¬__________
(¬1) كذا في (ت) وهو الصواب. لكن في سائر النُّسخ: عبيد. قال أبو عبيدة في كتابه (مجاز القرآن، 1/ 87): ({لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} يعني: عند الله).
(¬2) كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: عليهما.
وقال ابن برهان: إن المنع قول بعض المتكلمين. وبه قال مكحول ويحيى بن أبي كثير، إذْ قالا: السُّنة تَقْضِي على الكتاب -أيْ تُبَيِّنه- والكتاب لا يقضِي على السُّنة.
نعم، سيأتي في "باب النَّسخ" من كلام الشافعي أنَّ السُّنة لا ينسخها القرآن إلا إذا كان معه سُنة تُبَيِّن، فيحتمل أن يجيء مِثله هنا.
وكذا في نَسخ الكتاب بالسنة المتواترة.
وقد سبق جواب القرافي في "إطلاقهم السُّنة المتواترة، ومِثْلها لا يوجد، فكيف يمثل به؛ " بأنَّ ذلك باعتبار الزمن الذي كانت فيه متواترة وإنْ طرأ عليها الانتقال [للآحاد] (¬1).
وسبق رده، والله تعالى أعلم.
ص:
653 - وَسُنَّةٌ بِهَا كَمَا في خَبَرِ ... "فِيمَا سَقَتْ" يُخَصُّ ذَا بِالْأَثَرِ
654 - أَيْ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةٍ" إلَى ... آخِرِهِ، فَالْقَول أَوْ مَا [فَعَلَا] (¬2)
655 - أَوْ قَرَّرَ النَّبِيُّ سُنَّةً بِهَا ... يُخَصُّ حَيْثُ أُطْلِقَتْ فَعَمَّهَا
656 - فَعَادَةً قَرَّرَهَا مُخَصِّصَهْ ... كَمَا بِإجْمَاعٍ تُقَرُّ، فَاخْصُصَه
الشرح: القسم الرابع: تخصيص السُّنة بالسُّنة:
وكُل مِن السُّنة العامة والمخَصِّصة إما متواترة أو آحاد، فمسائلها أربع، ثلاثة منها فَرْعُ وجود المتواتر، وقد سبق بيانه، وعلى تقدير وجوده يأتي في كل قِسم مِن الخلاف ما سنذكره.
¬__________
(¬1) في (ص، ق): بالآحاد.
(¬2) في (ت، س): نقلا.
الآن. والله أعلم.
ص:
900 - وَمنْهُ "الِاسْتِحْسَانُ" عِنْدَ قَائِلِهْ ... أَبِي حَنِيفَةَ، انْمِ (¬1) مِنْ دَلَائِلِهْ
901 - هُوَ دَلِيلٌ مَا بِنَفْسِ الْمُجْتَهِدْ ... تَعْبيرُهُ يَقْصُرُ عَنْهُ إنْ وُجِدْ
902 - وَفي عِبَارةِ الْإمَامِ الشَّافِعِيْ ... تَلَفَّظٌ بِهِ بِمَعْنًى شَائِعِ
الشرح:
أي: ومنه "الاستحسان"، وهو استفعال مِن الحسْن، بمعنى: اعتقاد الشيء حسنًا. ومعناه في الاصطلاح عند القائلين به - وهُم أبو حنيفة وأصحابه - ما سنذكره، ويعدونه من الدلائل.
وذلك معنى قولي: (انْمِ مِنْ دَلَائِلِهْ) أي: انْقل ذلك عنه.
وقد نقله ابن الحاجب عن الحنابلة أيضًا، قال: (وأنكره غيرهم حتى قال الشافعي: "مَنِ اسْتَحْسَن فَقَدْ شَرَّع").
وهو بتشديد الراء أي: نَصب شرعًا على خِلاف ما أمر الله به ورسوله؛ لأنه - كما سيأتي - يؤول إلى قول الشيء بلا دليل.
ويؤيد نقلَه عن الحنابلة ما ذكر أبو الخطاب أن أحمد قال: إن أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئًا خلاف القياس، قالوا: "نستحسن هذا وندع القياس". فيدعون ما يزعمون أنه الحقُّ بالاستحسان، وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه.
¬__________
(¬1) يعني: انقل ذلك عنه.

الصفحة 156